ألوان الحياة

من بولاق الدكرور إلى جنوب فرنسا.. التجربة تختلف

كتب – أمير زكي
شقة ببولاق الدكرور في بداية الستينيات كانت البداية لظهور أديبين مصريين كبيرين فيما بعد، القاص يحيى الطاهر عبد الله والشاعر عبد الرحمن الأبنودي اللذان أتيا من قنا وتقاسما الشقة (مع آخرين) لتكون محل قريب من وسط البلد في بداية الستينيات من القرن الماضي. 
“كنت أسكن بشقة بوسط المدينة، قبل أن يأتي أخي ويحيى الطاهر عبد الله ويسكنان بشقة ببولاق الدكرور، فاضطررت أن أنتقل وأعيش معهما”. ويضيف الأبنودي أن الشقة ذات الثلاث غرف لم يكتف يحيي الطاهر بأن يزودها بثلاث أسرة فقط بل أحضر ثمانية أسرة، لتكون الشقة ملتقى المثقفين القادمين من الأقاليم في هذا الوقت. 
يصف عبد الرحمن الأبنودي الشقة في مقال كتبه عن يحيى الطاهر عبد الله بجريدة أخبار الأدب بأنها “شقة حقيرة مليئة بالأسرة.. كانت أشبه بالملكية العامة… وحوّلها يحي الطاهر إلى ما يشبه سوق الثلاثاء”.
يذكر الأبنودي أنه أثناء سكنه في هذه الشقة كتب ديوانه “الزحمة” وكان متحققا ككاتب للأغاني. في حين أن يحيى الطاهر عبد الله أكمل في هذه الشقة مجموعته القصصية الأولى “ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا”، يقول الأبنودي: “هو كان قد كتب قصتين منها في قنا، وأكمل المجموعة في شقة بولاق الدكرور”.
شارع البلتاجي ببولاق الدكرور الذي كان يضم الشقة كان محل أحداث إحدى قصص المجموعة الأولى ليحيى الطاهر، والتي حملت عنوان “35 البلتاجي 52 عبد الخالق ثروت”. العنوانان اللذان يحددان محل عمل عباس دندرواي الموظف بوزارة الإسكان والمرافق، والشخصية الرئيسية بالقصة، ومحل إقامته ببولاق الدكرور. 
يذكر الأبنودي كيف كان يحيى يغلق على نفسه باب غرفته أثناء الكتابة، ويظل يكتب ويدخن، ويرفض أن يفتح أحد عليه الباب حتى من أجل أن يدخل له الهواء النظيف.
وفقا لرواية الأبنودي فقد كانت الشقة محط تجمع كل أصدقاء الكاتبين، يذكر الأبنودي أنها كانت مقصدا لأسماء شهيرة أخرى مثل الشاعر أحمد فؤاد نجم والملحن كمال الطويل، ولأن الأبنودي كان أسبق من يحيى الطاهر عبد الله في الشهرة، وربما تنوع نشاطه بين الشعر وكتابة الأغاني جعله أغنى نسبيا، فيذكر في المقال أنه كان يضطر أن يصرف على كل مرتادي الشقة، يقول الأبنودي: ” كتابة الأغاني هي التي كانت تصرف علينا”.
عبد الرحمن الأبنودي ويحيى الطاهر عبد الله إلى جانب أمل دنقل، الذين أتوا جميعا من قنا، وإن كان الثاني من أصل أقصري، أصبحوا ثلاث علامات بارزة في تاريخ الأدب المصري، الأبنودي في شعر العامية إلى جانب إسهاماته في كتابة الحوار للسينما بل وفي تحقيق السيرة الهلالية، ويحيى الطاهر عبد الله في فن القصة القصيرة، وأمل دنقل في شعر اللغة العربية، وتذكر الكاتبة عبلة الرويني في كتابها عن أمل دنقل “الجنوبي” أن دنقل ويحيى الطاهر عاشا في غرفة واحدة بفندق الخليج بشارع طلعت حرب لمدة شهر قبل أن يتركا معا السكن. وفقا للرويني أطلق أمل دنقل على هذا الشهر اسم “شهر العذاب” إذ لم يستطع أبدا أن يحتمل صخب يحيى الطاهر عبد الله.
ويذكر عبد الرحمن الأبنودي أيضا شقة هامة أخرى وهي شقة بالعجوزة، شقة العجوزة ضمت العديد من الأدباء والفنانين التشكيليين، وكانت مقر تجمع المثقفين في هذه الفترة حيث كان يتردد عليها بخلاف الأبنودي ويحيى الطاهر، الفنان عدلي رزق الله والشاعر سيد حجاب والناقد سيد خميس، الذي بحسب الشاعر عبد الرحمن الأبنودي كان غالبا ما يتحمل تكاليف هذه الشقة.  
مشاركة أكثر من فنان بيت واحد هو أمر شائع في العالم لأسباب متنوعة، وإلى جانب طرافة ذلك، فللأمر آثاره الجانبية السيئة أيضا. البيت الأصفر بمدينة آرل بجنوب فرنسا هو بيت استأجره الرسام الهولندي الشهير فان جوخ عام 1888 ليكون مسكنا له وحافظا للوحاته، فان جوخ دعا الرسام الفرنسي بول جوجان (الذي كان قابله في باريس من عدة شهور) ليقضي الوقت معه في البيت الأصفر، راغبا في أن يكون البيت تجمعا للفنانين، بعد عدة محاولات للإقناع من قبل فان جوخ وأخيه قبل جوجان أن يعيش في نفس البيت مع فان جوخ في مدة زادت عن الشهرين. ولكن الشهرين لم يمرا بهدوء، في البداية عمل الرسامان معا في تجاربهما بحماس، قبل أن يختلفا فنيا، ويهدد جوجان فان جوخ بأن يرحل، اضطرب فان جوخ الذي خشي من الوحدة، وفي يوم مضطرب، حتى أنه مضطرب بالنسبة لنا لعدم تأكدنا من أحداثه أيضا، قطع فان جوخ جزء من أذنه ولفها في قطعة من جريدة وأعطاها لعاهرة. جوجان الذي رأى تدهور حالة فان جوخ النفسية قرر أن يستدعي الشرطة ويرحل من البيت الأصفر. مؤخرا ظهرت مزاعم أخرى أطلقها مؤرخون ألمان بأن جوجان هو الذي قطع أذن فان جوخ أثناء شجار، وغيّر الفنانين الحقيقة، الأول ليتجنب الاتهام، والثاني ليحافظ على صداقته بجوجان الذي كان معجبا به جدا. على أي حال ففان جوخ الذي تدهورت صحته النفسية وأخذ يتنقل بين البيت الأصفر والمستشفى، أغلق أمامه البيت عندما طالب ثلاثين من أهل المدينة في عريضة للشرطة بالتخلص من هذا “المجنون ذي الرأس الأحمر”.
نُشِر بجريدة الشروق 16 يوليو 2012

Amir is a writer and translator from Egypt.