تاريخ مراقبة كبار الكتاب
ملفات سارتر وكامو في الإف بي آي
كتب – أمير زكي
***
يبدو أن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي “الإف بي آي” لم يكن مشغولا فقط بالتحقيق في الجرائم الخطيرة التي تحدث في أمريكا، ولا حتى المشاركة في الأعمال المخابراتية التي تهتم بها أجهزة أخرى بالولايات المتحدة الأمريكية، أو المشاركة في تصفية الخصوم السياسيين كما اتهمه المفكر الأمريكي نوام تشومسكي أكثر من مرة، بل كان أيضا يسعى وراء مشاهير كتاب الفلسفة والأدب لأسباب مختلفة. أثير الأمر مجددا عندما كتب آندي مارتن أستاذ اللغة الفرنسية بجامعة كامبريدج ومؤلف كتاب “الملاكم وحارس المرمى: سارتر في مواجهة كامو” مقالا بمجلة بروسبكت البريطانية في الشهر الماضي يتحدث فيه عن أن مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي (FBI) بقيادة مديره الشهير آنذاك إدجار هوفر راقب الفيلسوفين الفرنسيين سارتر وكامو لأسباب عدة منها الخوف من كونهما يروجان للأفكار الشيوعية أو إيذاء البلاد.
الوثائق التي تظهر من عدة سنوات بشكل قانوني بسبب قانون حرية المعلومات الأمريكي، تؤكد أن كامو وسارتر ليسا الضحيتين الوحيدتين لتتبع الإف بي آي، فإلى جانب الفرنسيين الشهيرين هناك قائمة من الكتاب الأمريكان تعرضوا لهذه المطاردات، منهم الروائي نورمان ميلر والشاعر تشارلز بوكوفسكي. مطاردة عملاء الإف بي آي البعيدين عن عالم الكتب والفلسفة للأدباء جعلت هؤلاء المحققين مضطرين إلى أن يلقوا نظرة على كتب وأفكار هؤلاء الكتاب، مما جعل آندي مارتن يصفهم بأنهم أشبه بشخصيات “الشرطيون المتفلسفون” وهي شخصيات ابتكرها الكتاب الإنجليزي ج. ك شسترتون في روايته “الرجل الذي كان الخميس”؛ وهم في روايته كانوا يسعون وراء الفوضويين، وعلى حد تعبير شسترتون في الرواية هم يختلفون عن المحققين العاديين في أنهم لا يسعون وراء اللصوص بل يدورون في الاجتماعات بحثا عن المتشائمين. تعليقا على الأوراق التي كشفها آندي مارتن يتساءل الصحفي جوستين بيترز عن كمية الوقت والأموال الضائعة التي أهدرها عملاء الإف بي آي بحثا وراء أناس لم يقوموا بإيذاء أحد. ونحن هنا نرصد طبيعة بحث عملاء الإف بي آي عن عدد من الكتاب والفلاسفة.
كامو وسارتر
بدأ اهتمام الإف بي آي بسارتر من بداية الستينيات، بسبب عضويته لـ “لجنة اللعب النظيف من أجل كوبا” التي كانت تؤيد الثورة الكوبية في مواجهة هجوم الولايات المتحدة عليها، هذه اللجنة التي ضمت العديد من الأسماء الفكرية المهمة مثل ترومان كابوتي ونورمان ميلر وآلن جينسبرج، ولكنها ضمت أيضا لي هارفي أوزوولد المعروف باغتياله للرئيس الأمريكي جون كينيدي. لذلك يتساءل آندي مارتن في مقاله بمجلة بروسبكت بسخرية إن كان الإف بي آي قد تشكك في أن سارتر هو الرجل الثاني الذي قام بإطلاق النار على كينيدي، في إشارة إلى النظريات الأحدث التي تقول إن أوزوولد ليس مطلق النار الوحيد المتسبب في اغتيال كينيدي كما انتهت التحقيقات الأولية بل أن هناك مطلق نار آخر. في النهاية يشير مارتن إلى أن سارتر كان في الأغلب في باريس وقت اغتيال كينيدي إذ كان يعمل على مسودة كتابه”الأزمنة الحديثة”.
بالإضافة إلى ذلك كانت تصريحات سارتر مقلقة للإف بي آي بقيادة مديرها الشهير تاريخيا إدجار هوفر، فيصف سارتر الولايات المتحدة بأنها “دولة بلا رأس”. هذا غير صداقات الفيلسوف الفرنسي بالشيوعيين وبكاسترو وبرتراند راسل، وأيضا سارتر أعلن رفضه للتدخل الأمريكي بفيتنام.
ووفقا لآندي مارتن في مقاله ببروسبكت اهتم الإف بي آي أيضا بالمفكر الفرنسي آلبير كامو. وتعود قصة الاهتمام به إلى عام 1946، إذ كتب جون إدجار هوفر مدير الإف بي آي خطابا إلى أحد العملاء بمكتب نيويورك طالبا منه أن يهتم بآلبير “كانو” (أخطأ في هجاء الاسم الصحيح) الذي يراسل جريدة “كومبات” من نيويورك”: “ويرسل تقارير غير صحيحة ومؤذية للمصلحة العامة للبلد”. طلب هوفر أيضا في خطابه أن يقام “تحقيق أولي للتأكد من خلفيات ونشاطات وانتماءات (كانو)”. يذكر مارتن أنه أحد عملاء الإف بي آي واتته الشجاعة ليخبر هوفر أن الاسم الصحيح هو “آلبير كامو” ولكن ليخفف وطأة تصحيح الخطأ على مديره أخبره أنه ربما يستخدم اسم “كانو” المستعار رغبة في التخفي.
يسخر الصحفي جوستين بيترز في تعليقه على هذا الخبر في مجلة سليت، خاصة لحاجة رجال الإف بي آي أن يقرأوا رواية مثل “الغريب” لكامو للوصول إلى كتابة تقرير مناسب عن الكاتب الفرنسي.
واجه عملاء الإف بي آي عدة مشكلات في التعامل مع سارتر وكامو منها أنهما يكتبان باللغة الفرنسية، لذلك اشتكى أحد العملاء في أحد التقارير أنه لا يستطيع قراءة الدفاتر المسروقة من الفيلسوفين بسبب لغتها الفرنسية، وأنه طلب من المترجمين أن يعملوا عليها حتى يتم التحقيق بشكل منضبط.
يعود مارتن ويرى أن أحد الأغراض الأساسية لبحث الإف بي آي كامو وسارتر هو معرفة إن كانت الأفكار الوجودية والعبثية هي مجرد واجهة تخفي وراءها الأفكار الشيوعية، تلك التي كانت تشغل إدجار هوفر بشكل كبير. ولكن يبدو أن الفيلسوفين كانا مربكين بالنسبة لعملاء الإف بي آي فقد كتب أحد العملاء في تقرير له أن “سارتر يمكن أن يوصف بأنه مؤيد للشيوعية وهو يؤيد الشباب على عدم الإيمان بالروحانيات، ولكن في الوقت نفسه يصفه البعض الآخر بأنه ضد الشيوعية”.
كذلك يبدو أن كتب ألبير كامو قد أثرت على أسلوب كتابة التقارير لدى عملاء مكتب التحقيقات، فقد كتب العميل جيمس آندرهيل الذي كان يرصد آلبير كامو ذو الطبيعة المتهربة في تقريره: “لا يُظهر هذا الملف حكمنا النهائي”.
هذا يدل – كما يقول جوش جونز في موقع “أوبن كالتشر” – إلى أن عملاء الإف بي آي لم يستوعبوا الطبائع المنوعة عند الكاتبين الفرنسيين، لأنهم اعتادوا بشكل أكبر على لوني الأبيض والأسود وعالم مكون من جواسيس في مواجهة جواسيس.
نورمان ميلر
الكاتب الأمريكي نورمان ميلر كتب بجريدة “اسكواير” مقالا انتقد فيه جاكلين كينيدي السيدة الأولى بأمريكا آنذاك معلقا أنها “معسولة الكلام جدا بالنسبة لسيدة أولى”. قرأ إدجار هوفر هذا المقال في الواشنطن بوست عام 1962، وكتب لعملائه فورا: “أحضروا لي مذكرة عن نورمان ميلر”. كما سرد ذلك مقال بالواشنطن بوست عام 2008. كان على عملاء الإف بي آي أن يقرأوا كتابات ميلر إلى جانب متابعة تفاصيل حياته. أحد العملاء كتب في تقرير له عن رواية ميلر السياسية “ميامي وحصار شيكاجو” قائلا “يحتوي الكتاب على إشارات إلى المقولات الفارغة – من النوع المتوقع من ميلر – المتعلقة بالإف بي آي ومديره”. ويضيف في التقرير: ” (الكتاب) مكتوب بوقاحة (ميلر) المعتادة وأسلوبه اللاذع”. يعلق الصحفي جوستين بيترز على الجملة الأخيرة قائلا إنها جملة يفخر بها أي عارض للكتب.
ميلر كان معروفا برأيه المنتقد اللاذع تجاه الإف بي آي، وقد ذكرت إحدى تقارير المكتب أنه قال إن الإف بي آي قام بإيذاء أمريكا أكثر مما فعل الشيوعيون.
إحدى التقارير التي تعود لعام 1962 أشارت إلى أن ميلر يعترف أنه يساري، وأنه وصف الإف بي آي على أنها منظمة بوليس سري. وأضيف في التقرير تعليق أحد الصحفيين أن ميلر “شيوعي متخفي”.
استمر عملاء الإف بي آي في متابعة ميلر لأكثر من 15 عاما. متعقبين كل تفصيلة صغيرة وكبيرة في حياته. تكلموا مع أصدقاءه وانتحل أحد العملاء شخصية صديق له حتى يحدث والده، ودخلوا بيته كعمال توصيل طلبات للمنازل. ليعودوا ويكتبون التقارير التي يقدمونها لهوفر.
ولكن حتى بعد موت إدجار هوفر عام 1972 ظل ميلر على قائمة اهتمامات الإف بي آي. خاصة عندما على مكتب التحقيقات أن ميلر ينوي تأليف كتاب عن مارلين مونرو، وسوف يشير أن الإف بي آي أخفى المعلومات الحقيقية وراء موتها. والكتاب صدر بالفعل عام 1973.
ويمتد مجموع تقرير الإف بي آي عن نورمان ميلر الذي ظهر في جريدة الواشنطن بوست إلى 166 ورقة.
تشارلز بوكوفسكي
بدأ تتبع بوكوفسكي من عام 1968 بسبب كتابه “مذكرات رجل عجوز قذر” الذي آثار ريبة مكتب التحقيقات. ولكن وفقا لجريدة لوس آنجلس تايمز فيبدو أن الشاعر العجوز الذي وصف نفسه بالقذر لم يظهر هذه القذارة في تصرفات حياته البادية للإف بي آي، فحسب التقرير الذي يتجاوز المائة ورقة يقول عنه أحد جيرانه إنه رجل هاديء ومن النادر أن يأتيه ضيوف وإنه لم ير أحدا امرأة تزوره، هذا الذي جعل الصحفي جوستين بيترز يقول ساخرا إن مثل هذه المعلومات لو كانت نشرت في وقتها لدمرت سمعة تشارلز بوكوفسكي.
تضم أوراق الإف بي آي التي نشرها موقع بوكوفسكي على الإنترنت العناوين التي سكن بها والوظائف التي التحق بها، وعدد المرات التي تم القبض عليها فيها بسبب مشاجرات أو بسبب السُكر. وتعليقات على كتابه “مذكرات رجل عجوز قذر”، وتفاصيل علاقاته وزواجه، ربما كان أبرز ما كشفته أوراق الإف بي آي هو التشكك في أن بوكوفسكي كانت له زوجة قبل أول زوجة معروفة له.
ويليام فيلمان
قد تظن أن تصرفات الإف بي آي هي تصرفات قديمة استمرت من الأربعينيات إلى نهاية الستينيات، أو هي منحصرة في فترة إدارة إدجار هوفر الذي أدار المكتب من عام 1935 حتى وفاته عام 1972؛ تلك الفترة التي كانت حافلة بالأحداث ومتوجسة من أي إتجاه يساري أو شيوعي في أمريكا ولكن يتضح أن الأمر ليس كذلك.
ويليام فولمان الروائي المعروف باهتمامه بموضوعات متطرفة في كتبه، هذا الذي جعله يتجول مع المجاهدين الأفغان في بداية الثمانينيات ويغطي حرب البوسنة عام 1994، تشكك فيه الإف بي آي باعتباره القائم على عدة تفجيرات متسلسلة في التسعينيات والذي اشتهر آنذاك باسم Unabomber، وقد تم اكتشاف أن القائم بهذه التفجيرات هو الأكاديمي المختص بالرياضيات تيد كازينسكي. فولمان المولع بمشاهد العنف في رواياته والمعارض دوما للحكومة قال في إحدى الحوارات تعليقا على اكتشافه لتتبع الإف بي آي له إنه لا يلقي عليهم اللوم في ذلك ولكنه يجد مشكلة في أنهم بعدما قبضوا على القائم بالتفجيرات ظلوا يتتبعونه أيضا لمدة عامين. كتب الإف بي آي مئات الصفحات عن فولمان الحاصل على الجائزة الوطنية الأمريكية للكتاب وذكروا في أحد التقارير أن موضوعات كتبه “مضادة للتقدم”، هذا الذي قد يكون سببا رئيسيا لتتبعه طوال هذه السنوات.