معني الحياة عند المدونين الشباب
بعضهم يؤمن أن أفضل ما يفعله الإنسان ألا يفعل شيئاً .. والبعض يهرب إلي الكتب والكتابة
كتب – أمير زكي
يصف أحمد مجدى نفسه فى مدونته «الحياة بطريقة أخرى» على أنه «وجودى، متشكك يضطرب ويرتبك حتى أنه قد لا يثق فى صحة التنميط الذى وضع نفسه فيه». مدونة أحمد مجدى كلها تحمل حس الاضطراب الذى تحدث عنه، يحاول أن يشرح أسبابه قائلا: «عشت طفولة عادية لم أفعل فيها شيئا سوى الدراسة، لم أمارس الرياضة، لم أتدرب على آلة موسيقية. ولكن نقطة التحول بالنسبة لى كانت المرحلة الثانوية، فى هذه الفترة شاهدت العديد من الأفلام الأمريكية، دخلت الجامعة على أمل التمثل بهذا الأسلوب فى الحياة، وكانت الصدمة».
طبيعة الصدمة قد تبدأ بأن يعرض على بعض الفتيات الخروج بطريقة الأفلام الأمريكية ويتلقى الرفض ولا تنتهى بصعوبة الاندماج مع المجتمع حوله ككل، ليجد نفسه شاعرا بالوحدة وعدم التواصل وعدم التفاهم مع كل ما حوله.
الهم السياسى الذى كان سمة المدونات لفترة انتقل الآن إلى حد كبير إلى الفيس بوك وتويتر، لتعود المدونات إلى حد ما إلى حسها الشخصى الذاتى الذى يلامس أحيانا الكتابة الأدبية، وحين يأتى وقت الحديث عن الذات، خاصة عند الشباب فى العشرينيات من عمرهم وهم جل كتاب المدونات، يتم استدعاء أسئلة مثل معنى الحياة والوجود فى العالم، ويتم استدعاء إجابات كالعدمية والعبثية والعزلة والاستسلام.
يكمل أحمد مجدى حديثه عن المواضع التى شكلت وجهة نظره المضطربة الحالية، يقول: «اتجهت لبعض الأعمال الصغيرة، وقمت بعمل مشروع صغير مع صديق، هذا الصديق مات، هنا تجلت لى عبثية الحياة، تحولت بعد ذلك إلى شخص محبط وصامت وزاهد وأميل إلى الوحدة، ولم أعد أفكر فى المستقبل». يضيف: «أصبحت أؤمن أن أفضل ما يفعله الإنسان هو ألا يفعل شيئا».
هرب أحمد مجدى فى المقابل إلى الكتب والكتابة. ويصف مجدى طبيعة الانتقال موضحا: «قبل الجامعة كنت استمع لأغانى البوب وأقرأ لكتاب مثل دان براون وجون جريشام، بعد الجامعة والتحول أصبحت أستمع إلى أغانى الروك ولم أعد أقرأ سوى للكتاب الجيدين.
الكتب والكتابة تمثل إما نقطة التحول أو نقطة الانغماس لهؤلاء الشباب، يقول محمد الجابرى صاحب مدونة «دخان شيشة»: «أنت تجد الكتب التى تتطابق مع أفكارك فتزيدها رسوخا».
تتشارك مدونة محمد الجابرى مع مدونة أحمد مجدى فى همومها الوجودية، ويبدو الجابرى أيضا صاحب موقف مضطرب من العالم، يصف الجابرى نفسه على أنه (لا أدرى)، ويضيف: «ممكن أكون عدمى».
يقول الجابرى الذى تبدو نصوصه فى المدونة قصيرة وتجريبية تتنوع فيها اهتماماته بين الأدب والسينما: «ليس عندى تصور عن العالم، وجوده أو غرضه، وبالتالى فأنا لا أعرف معنى وجودى فيه، وأحيانا أنساه». فى المقابل فلا يجد الجابرى، الذى يبلغ 25 عاما، أمامه سوى أن يستمتع بالأشياء الصغيرة المتاحة له، أو فى أوضاع أخرى الانسحاب من الحياة: «ساعتها أضع نقطة وأسكت».
وإن كانت المراهقة هى مرحلة التحول عند أحمد مجدى وسببها الأفلام الأمريكية، إلا أن الجابرى لا يستطيع تحديد المرحلة أو الأسباب، يقول: «لا أدرك كل ما أثر فى، ولكن كانت هناك تأثيرات بلا شك، فترة التجنيد مثلا، فى هذه الفترة يحدث لك ما هو أشبه بتصفية الروح، هناك من هو أكثر سلطة منك رغم أن تعليمه أقل، بالإضافة إلى ذلك فهو يستعبدك، فى المقابل أنت تريد أن تنتقم وتعجز، وهذا يولد فيك طاقة سلبية».
السبب الثانى الذى يذكره الجابرى هو وصول الآخرين «الأقل منه» على حسب تعبيره إلى أهداف لم يصلها، ويقول: «هذا سبب لى أزمة فى البداية، ولكنى تجاوزته الآن، أعتقد أن الوصــول لهذه الأهــداف لـــم يكـــــن ليشبعنى».
ولكن هل الإشباع متاح أصلا؟، يرد الجابرى بأنه ليس جائعا الآن لشىء، ويضيف: «ولن أقول عن هذا تصوف، فلم أعد أضع رأيى تحت توصيفات».
أما آية عزت صاحبة مدونة «مونولوج»، فتصف أن موقفها من العالم ليس سلبيا ولا إيجابيا، ولكنها تعرف أن العالم متغير فلو حاولت تبنى اختيارا ما فيه ستقابل دوما بالمقاومة.
آية التى تكرر فى مدونتها الحديث عن الله وعن علاقتها به تؤمن بعالم آخر، ولكنها مع ذلك تقول: «الإيمان بعالم آخر لا يبرر بالضرورة اتخاذ موقف إيجابى فى العالم الذى نحيا فيه».
تعيد آية حقيقة نظرتها للعالم إلى الكتب، تلك النظرة التى لا تتوقع شيئا ولا تختار شيئا: «كانت قناعتى بذلك سطحية إلى حد كبير وأصبحت عميقة مع الكتب».
سوء فهم مع المجتمع
يؤكد أحمد مجدى على أن الوضع فى مصر هو الذى يزيد من حدة هذا النمط فى التفكير، يقول: «المطلوب فى مصر أن نتحول جميعا إلى نسخة واحدة، وأن نعيش نمطا واحدا من الحياة».
ترى آية مثلها مثل مجدى والجابرى أن هناك عدم فهم متبادل بين جيلها وبين المجتمع، هذا المجتمع المتمسك بأفكاره فلا تكون هناك مساحة للتغيير، وتتصور أن المستقبل قد يحمل لها تكسيرا لبعض القيود ولكن بتوازن.
الثورة كانت حدثا جللا فى كل الأوساط بمصر، حتى عند هؤلاء ذوى الأفكار المختلفة، حيث تفاوت حماسهم ورد فعلهم عليها، يقول أحمد مجدى: «أنا متعاطف مع الثورة كميدان ولكنى لست متصالحا مع المجتمع». ويضيف: «المجتمع جاهل وفى كل خطوة نكتشف أننا فى عالم ثالث، نحن مجتمع يحض على الكراهية، حتى خطبة الجمعة يقول الخطيب إنه علينا أن نحارب إسرائيل، الخطيب لن يحارب، أنا الذى سيتم تجنيدى بعد أسابيع وسأتعرض لذلك».
الجابرى كان متحمسا للثورة رغم موقفه المتردد من الآخرين، ويقول إنه كان مندمجا مع الناس فى البداية: «وحتى الآن أنا لست فاقدا للأمل، أنا متوقع وجود فعل جماعى حقيقى سيحدث قريبا ولكن ليس بإمكانى تقديم شىء لهم». فى حين ترى آية أن الثورة أثبتت أنه لا يزال هناك من يقاوم ويحاول، وهذا جعلها تحب المجتمع وتحترمه إلى حد ما، رغم أن الثورة لم تصل إلى شىء حتى الآن.
الصدمة فى مواجهة العالم
يشرح أحمد مجدى أن انفتاح جيله على العالم هو أحد الأسباب الرئيسية التى تجعل حالة العدمية هذه سائدة، فالقيم التى اكتسبها جيله من الثقافات المختلفة هى ما يجعل موضوع الانعزال محوريا بين هذا الجيل على حساب الأجيال السابقة. السبب نفسه يتبناه د.أحمد عبدالله ــ مدرس الطب النفسى بجامعة الزقازيق ــ فهو يرى أن شبابنا انفتح على العالم بدون أن يكون مستعدا لهذا. ويشرح قائلا: «فوجئ الشباب أنه غارق فى محيط من الأسئلة والأفكار بدون أن يعرف كيفية أن يسبح».
ولكنه يعيب أيضا على النظام الاجتماعى الذى خلا من أى مساحة نقدية للتعبير عن الرأى، قائلا: «فى المقابل، النظام الرسمى لم يقدم لك أى أدوات للتعامل مع هذا، والمجتمع يقابل أفكار هؤلاء الشباب بالرفض مما يزيد من مساحة التحدى لديهم». ويضيف: «العقلية المجتمعية عندنا هى عقلية عسكرية، تميل للرسوخ والتشابه، وإذا حدث أى قلق والقلق طبيعى فى مراحل التغير، يقول المجتمع (امنع القلق) وهذا فهم عسكرى للأمور».
يتحدث د.أحمد عبدالله عن أفكار الشباب التى تكون أشبه بـ(الافتكاسات) فى مقابل مجتمع يتحدث عن الإجابات النموذجية. ولكنه فى النهاية لا يرى فى المشهد كله سوى نوع من سوء التفاهم من الممكن حله بأدوات بسيطة، موضحا: «يجب فقط أن تكون هناك جدية فى الاستماع إلى هؤلاء الشباب، وأن نتحدث معهم على أنهم مقبولون، هذا القبول سينفى بالضرورة أى مشكلة أو شعور بغرابة الأطوار التى يعانون منها».
فى المقابل لا يرى أحمد ناجى، المدون وصاحب كتاب «المدونات من البوست إلى التويت» الذى يتحدث عن تاريخ التدوين، أنه يمكن تعميم نماذج هؤلاء الشباب على عدد كبير من المدونين، ولكنه يعلق: «يجب أن نضع فى حسباننا أن قطاعا كبيرا من مستخدمى الإنترنت فى مصر من الشباب والمراهقين، وبالتالى فحالة التوازن النفسى لديهم تكون شيئا نادرا، خاصة فى ظروف بلد مثل مصر». ويضيف: «فى النهاية المسألة اختيار فردى، وفى مقابل تدوينات الاكتئاب والعالم الأسود الحزين، ستجد تدوينات الأرز باللبن والفتاة التى تشكر الله على الشيكولاتة والشرائط الزرقاء».
لا يعتقد أحمد ناجى أن المدونات بالضرورة هى التى تساعد على وجود مثل هذا الحس المضطرب لدى الشباب: «ربما كان هذا الحس موجودا ولكنه محبوس بدفاتر بدرج المكتب وهو الآن متاح للجميع على المدونات».
الإنترنت الذى يتيح كل شىء للجميع ربما يؤدى إلى حالة اتخاذ موقف من السلطة الجبرية والمقيدة، كما يقول أحمد ناجى: «حالة الإنترنت نفسها هى حالة لا سلطوية، فلا سلطة على المستخدمين ولو وجدت فمن السهل تجاوزها، وبالتالى يظهر السؤال؛ لم لا تكون الحياة كلها هكذا بلا سلطة جبرية؟».
***
سؤال الفلسفة القديم
الأسئلة التى يطرحها بعض المدونين عن معنى وجود الإنسان، ومشاعرهم القلقة وإحساسهم بالعبث والعدم لا تنفصل عن الأسئلة التى طرحتها الفلسفة على مر العصور. فمعنى الحياة والوجود هذا الذى يحير بعض المدونين الذاتيين كان أحد أسئلة الفلسفة الأساسية، وبينما كان يقدم الدين إجاباته المستقرة عن الحياة والمرتكزة على وجود الله تباينت وجهات النظر الفلسفية عن معنى الحياة.
تظل الفلسفة الوجودية التى تبلورت فى القرن العشرين أكثر الفلسفات رواجا وشيوعا حتى عند كتاب المدونات، فلا تعدم عندهم ظهور الأسماء المنسوبة إلى الوجودية كسارتر وكامو، وهايدجر ونيتشه من قبلهم. فى الوجودية يضفى الإنسان المعنى على حياته بنفسه، وبغض النظر عن المعنى الذى يضفيه الدين أو المجتمع عليه. أما عند الفيلسوفين اللذين يعتبران ممهدان للوجودية الدنماركى سورين كيركجور والألمانى فريدريك نيتشه، فالأول كان يرى أن على الإنسان أن يتحرك بقيمه الخاصة به وسط العالم العبثى، أما الثانى فكان مولعا بالحياة ويرى أنها تستحق أن تعاش فى ذاتها بدون أهداف سامية ربما سوى السعى لإنسان أعلى مما هو عليه الآن. مفهوم القلق الذى يعانى منه هؤلاء المدونون، أو بالأحرى الذى يعانى منه الناس كلهم ولكن بنسب متفاوتة، ناقشه الفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر والمعروف أيضا بأنه وجودى، فشعور القلق عنده هو الذى يظهر لنا العدم فى الحياة، والقلق لا يكون قلقا من شىء محدد وإنما هو مجرد شعور بأن العالم ينسحب من حولنا.
قد يذكر هذا المدون أو ذاك أنه عبثى أو عدمى. الفيلسوف الفرنسى ألبير كامو أخذ على عاتقه مناقشة هذين المفهومين، الذى قد يؤدى الإيمان بهما إلى تصرفات سلبية كالجريمة أو الانتحار.
كامو كان مؤمنا بأن العالم عبثى وعدمى، ولكن فى مقابل ذلك كان فى رأيه أن بمقدور الإنسان أن يعيش بشجاعة فى مواجهة ذلك.
عبثية الحياة عند كامو قد تصبح الدافع عند البعض ليفكر فى الانتحار، لذلك فأول جملة فى كتابه الشهير (أسطورة سيزيف) هى أن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الأساسية، بمعنى أن السؤال عن معنى الحياة هو دائما السؤال المهم. شرح كامو فى الكتاب أننا نأمل فى الغد ثم نكتشف أن الغد يقربنا خطوة من الموت، وتظل معرفة الحقيقة بالنسبة لنا مستحيلة سواء بالعقل أو بالعلم أو بأى شىء آخر فلا يتبقى أمامنا سوى التسليم بالعبث. ولكن كامو لا يتوقف مع القارئ عند هذا الحد وإنما يطالبه بالتمرد على هذا الوضع العبثى. فالإنسان الذى يعى العبث عليه أن يعى أيضا امتياز الحرية التى يقدمها له هذا الفهم.