Featured

شعيرة دينية وأشياء أخرى

كتب – أمير زكي
ثلاثة أيام جمعة أساسية كانت من ضمن الـ11 الأولى من ثورة 25 يناير، حاملة معها مليونيات عزيزة على كل من شارك فيها، تخلى الرئيس السابق عن السلطة في الجمعة 11 فبراير، لتصبح الجمعة التي تليها أقرب لجمعة احتفالية، من ضمن ذلك صلاة الجمعة وخطبتها، كانت خطبة يوسف القرضاوي إيجابية باحتفائها بالثورة وإنجازها الرئيسي من خلع مبارك، ونسبها لكل المصريين من مختلف دياناتهم وأطيافهم، ولكن كون القرضاوي ينتمي بشكل أو بآخر لجماعة الإخوان المسلمين حمل رسالة غير مريحة لبعض الناس، حتى أن الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل قال إن البعض قد يشبه هذه التجربة تجربة مجيء القرضاوي من قطر ليخطب في جمعة ما بعد انتصار الثورة، بعودة الخميني إلى إيران. 
لخطبة الجمعة أهمية محورية في الثقافة الإسلامية، سواء كانت الخطبة دينية بحتة، أو تعبر عن حالة البلد الذي تلقى فيه، أو أن يتم استغلالها بسبب غير ديني. فإلى جانب قيامها بدورها لزيادة الوعي الديني فقد استخدمت في صراعات سياسية ومذهبية. 
فخطبة الجمعة الأولى التي ألقاها الرسول في المدينة المنورة تحدثت عن التقوى ولكنها أيضا حثت على الجهاد لصالح الدين ومعاداة أعداءه. وإن كنا لا نملك حاليا الكثير من خطب الرسول. سارت خطب الخلفاء الراشدين في طريق تدعيم الدين، فأبي بكر الصديق في خطبة له يؤكد على ضرورة الإخلاص لله والاتعاظ من مصير السابقين، وفي خطبة لعمر بن الخطاب يبدو الخليفة الثاني أكثر اهتماما بالتفاصيل من حيث دعوته لعدم التشبه بالعجم أو الجلوس في مجلس خمر. 
خطب الجمعة كثيرا ما كانت تستخدم سياسيا، في كثير من العصور الإسلامية وربما حتى الآن فتوحيد الدعاء للحاكم في خطب الجمعة هي أحد الوسائل الأساسية لتدعيم حكمه، فيذكر أسامة محمد أبو نحل الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الأزهر (غزة) في دراسته عن حركات التمرد في مصر في بدايات العصر العثماني أن أحمد باشا تمرد على السلطنة العثمانية وأعلن سلطنته على مصر، وأن لا يكون مجرد واليا، وكان من الإجراءات التي أصر على أن تنفذ ليدعم سلطنته إلى جانب سك العملة باسمه أن يذكر اسمه في خطبة الجمعة. وفي دمشق في عهد الحروب الصليبية مال حاكم دمشق الصالح إسماعيل للتعاون مع الصليبيين، هذا الذي جعل الشيخ عز الدين ابن عبد السلام ينتقده خطبة الجمعة ويمتنع عن الدعاء له، هذا الذي اعتبر تلقائيا من قبل الصالح إسماعيل عصيانا له وأمر بسجن الشيخ.
 في تاريخ أبكر من ذلك كانت خطبة الجمعة ميدانا للصراع بين المذهبين الشيعي والسني في مصر، الذي هو الخلفية للصراع السياسي بين الفاطميين والعباسيين. فجوهر الصقلي عندما جاء إلى مصر حاملا لواء الحكم الفاطمي أنشأ الجامع الأزهر لينشر الفكر الشيعي، قرر أن يتم التوقف بالدعاء للخليفة العباسي في خطبة الجمعة لصالح الدعاء للحاكم الفاطمي، إلى جانب الدعاء لفاطمة ابنة الرسول والحسن والحسين، كما يذكر الكاتب جمال بدوي في كتابه “الفاطمية.. دولة التفاريح والتباريح”. ولكن عندما حكم صلاح الدين الأيوبي مصر أوقف نشاطات الجامع الأزهر مركز الفكر الشيعي آنذاك ومن ضمنها خطبة الجمعة. ومن ضمن تخلص دولة صلاح الدين الأيوبية من التأثير الفاطمي الشيعي قرر أن يوقف العمل بالجامع الأزهر، وقرر أن يعيد الآذان بـ “حي على الفلاح” بدلا من “حي على خير العمل” وطلب أن يتم ذكر جميع الخلفاء الراشدين في خطبة الجمعة، معتمدا على عدة مفكرين من ضمنهم القاضي الفاضل، أو محي الدين بن زكي الذي خطب أول جمعة بعد فتح بيت المقدس التي كانت احتفالية وإن حذرت من الفرقة بعد الانتصار. وخطبة الجمعة التي اختفت من الجامع الأزهر لسنوات طويلة تصل لمائة عام عادت إلى جانب نشاطات الأزهر العديدة على يد حاكم مصر المملوكي الظاهر بيبرس.
عديدون هم الخطباء البارزون في التاريخ الحديث لمصر، وربما كانت المنازعات اللسانية بينهم وبين السلطة في ذروتها في عهد الرئيس السادات الذي وصف أحد الخطباء الذين ينتقدونه بقوله: “آهو مرمي في السجن زي الكلب”. الشيخ أحمد الشرباصي أيضا يعتبر من خطباء مصر البارزين، كتابته للخطب قبل إلقاءها أدت إلى إمكانية جمعها في خمسة مجلدات بعد وفاته، تمتد خطابة الشرباصي في مجلداته من الخمسينيات إلى السبعينيات، وقد توفى عام 1980، ضمن أحداث بارزة في التاريخ المصري، في خطبة له عام  1968 اعترض – وهو دارس الأدب العربي – على القول بإن فرنسا هي أول من أبدع أدب المقاومة، إذ قال إن المسلمين كانوا أسبق لأدب المقاومة وروح المقاومة من الفرنسيين. يبدو أن الشرباصي كان مهتما بشكل خاص بالتجربة الفرنسية، في خطبة عام 1951، اعترض على الاحتفاء بالثورة الفرنسية في خطبة له بقوله إن الإسلام كان إصلاحا مبصرا ولم يكن ثورة عمياء. وفي نقده في نهاية الخمسينيات للشيوعية أو “الاستعمار الشيوعي” هاجم بشكل خاص الخطر الروحي الذي يمثله هذا الفكر على الإسلام. الشرباصي كان قد اعتقل عام 1949 لميله للإخوان المسلمين، ولكنه استغل فترة الاعتقال ليكتب “مذكرات واعظ أسير”. 
ولكن من ضمنهم يبقى الشيخ عبد الحميد كشك نموذجا فريدا لتأثيره وأقواله اللاذعة وطرائفه، معتمدا على سرعة بديهته ولهجته الفلاحية التي تصل بسهولة لقلوب وأذهان المستمعين. ومن طرائفه أن يقول: “بيقولوا على مصر دولة نامية، نامية ولا بامية؟”، أو أن يسخر من تجربة شخص نصاب قائلا: “أبوك كان بيحل الخط بكماشة”. الشيخ كان رافضا للعديد من مظاهر الثقافة في مصر كقوله: “كل يوم فيلم ومسرحية في التلفزيون لحد ما المعاملة كلها بقت تمثيل”، ولكن ذكره لرموز فنية كشكوكو وعبد المنعم مدبولي وأم كلثوم وعادل إمام قد يوحي مع ذلك أنه كان متابعا بشكل أو بآخر ولو من بعيد تجاربهم. ارتبط الشيخ عبد الحميد كشك بخطبة الجمعة من مسجد عين الحياة بحدائق القبة، حياته الخطابية انقطعت أكثر من مرة بسبب اعتقال السلطات السياسية في مصر له أكثر من مرة، وعندما خرج من السجن عام 1982 إذ كان قد اعتقل ضمن اعتقالات الرئيس السادات للعديد من الرموز في سبتمبر 1981 منع من الخطابة حتى نهاية حياته، حتى مات وهو يصلي الجمعة عام 1996.
نشر بجريدة الشروق 31/7/2012
العدد PDF

Amir is a writer and translator from Egypt.