سنة الأحلام الخطيرة – سلافوي جيجيك
نُشر بجريدة الأخبار الأدب 21 يوليو 2013
***
امتلأ عام 2011 بالمظاهرات الغاضبة حول العالم، وبينما توقفت هذه المظاهرات في بعض البلاد على مجرد التعبير عن الغضب، تحولت في بلاد أخرى إلى ثورات. خصص الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك كتابه “سنة الأحلام الخطيرة” لهذا العام المتوتر، مضيفا إلى المظاهرات المتحررة التجليات العنصرية في أوروبا التي كان مثالها الأبرز قيام النرويجي أندريش برايفيك بتفجيرات أدت لمقتل 77 شخصا، وكيف أن الاتجاهات اليمينية في العالم تنظر للمهاجرين كسبب أساسي للمشكلات الاقتصادية في بلادها، منتقلا إلى الحديث على مظاهر جديدة للرأسمالية يصبح فيها عدد كبير من البروليتاريا غير مؤهل للعمل. جيجيك يخصص فصلا كاملا من كتابه ليتحدث عن الربيع العربي، مشيرا إلى أن الطبيعة الثورية كامنة في الثقافة الإسلامية، ولافتا النظر إلى ضرورة الإخلاص للطابع المتحرر للانتفاضات العربية رغم ما يبدو من أنها تنتهي بانتصار الإسلام السياسي. ولا يخلو الكتاب من الحديث عن تجليات الثقافة الشعبية التي يهتم بها جيجيك بشكل خاص، إذ يتحدث عن المسلسل التلفزيوني الأمريكي “الشبكة” وكيف يعبر المسلسل عن الحاجز الذي يفصل أمريكا الغنية عن الفقيرة.
الفصل المنشور (وهو الفصل السابع من الكتاب) يتحدث عن مظاهرات حركة “وول ستريت” وكيف أنها تتشابه مع كل المظاهرات الأخرى في العالم، وبينما يشير جيجيك إلى خطورة كون هذه المظاهرات لا تحمل مطالب أو تنظم نفسها بشكل متماسك، محذرا من أن تقتصر على مجرد احتفالات كرنفالية، أو أن يكتفي المتظاهرون بالاحتفاء بالطابع الجمالي لفشلهم المتكرر، إلا أنه يشير أيضا إلى أنها جميعا تعبر عن ضيق من النظام الرأسمالي العالمي وشكل الديمقراطية المنتشر في العالم حاليا.
سلافوي جيجيك فيلسوف سلوفيني ولد عام 1949، مشهور باتجاهه اليساري واستخدامه للتحليل النفسي في تنظيراته، متأثرا بأسماء كبيرة كالألمانيين هيجل وماركس، والفرنسي جاك لاكان. ورغم صعوبة كتابته وجديتها إلا أن اهتمامه بمناقشة تجليات الثقافة الشعبية في العالم إلى جانب أسلوبه العصبي في الحديث وإلقاء المحاضرات أضفيا عليه شهرة كبيرة حتى أن البعض يطلق عليه “إلفيس بريسلي الفلسفة”. من كتبه: “أقل من لا شيء” و”العيش في الأزمنة الأخيرة” و”أولا كمأساة وثانيا كلمهاة” و”في الدفاع عن الأسباب المفقودة”.
احتلوا وول ستريت، أو الصمت العنيف للبداية الجديدة
ترجمة: أمير زكي
ما الذي يمكن فعله في أعقاب حركة احتلوا وول ستريت، عندما وصلت المظاهرات التي بدأت بعيدا – في الشرق الأوسط، اليونان، أسبانيا، المملكة المتحدة – إلى المركز وهي الآن تحظى بتدعيم كبير وتتحرك، بالتالي، حول العالم؟ في سان فرانسيسكو في يوم الأحد 16 أكتوبر 2011، وكصدى لحركة احتلوا وول ستريت، خطب رجل في الجماهير مع دعوة للمشاركة وكأن هذا يحدث بنمط الهيبي في الستينيات من القرن الماضي: “إنهم يسألوننا عن برنامجنا، ليس لدينا برنامج، نحن هنا لنقضي وقتا طيبا”. مثل هذه التصريحات تكشف المخاطر العظيمة التي يواجهها المتظاهرون: خطر أنهم سيقعون في غرام أنفسهم، وفي غرام المرح الذي يمارسونه في المناطق “المحتلة”. ولكن الكرنفالات رخيصة – الاختبار الحقيقي لقيمتها يظهر فيما يحدث في اليوم التالي؛ كيف تغيرت حياتنا اليومية أو تتغير. هذا يتطلب عملا صعبا وصبورا – تكون التظاهرات فيه هي البداية وليست النهاية. الرسالة الأساسية هي: لقد تكسر التابو، نحن لا نعيش في أفضل عالم ممكن؛ نحن يحق لنا، بل نحن مجبرون، على التفكير في البدائل.
باتباع نوع من الثالوث الهيجلي؛ فاليسار الغربي عاد لنقطة البداية: بعد التخلي عما يطلق عليه “ماهوية الصراع الطبقي” من أجل جمعية مواجهة العنصرية، والنسوية، والنضالات الأخرى، تعاود “الرأسمالية” البزوغ بوضوح الآن كاسم للمشكلة. أول درس يجب تعلمه هو عدم لوم الأفراد ومواقفهم؛ المشكلة ليست فساد الفرد وجشعه، ولكن النظام الذي يشجعه على الفساد. الحل ليس شعار “في الشوارع الرئيسية وليس وول ستريت[i]“، ولكن في تغيير النظام الذي يجعل الشوارع الرئيسية معتمدة على وول ستريت.
دعونا إذن نحظر الحديث عن الجشع؛ الرموز العامة من البابا إلى من أسفله يقصفوننا بالوصايا لمقاومة ثقافة الجشع المفرط والاستهلاك، ولكن هذا المنظور من الأخلاقية الرخيصة هو عملية أيدولوجية إن كانت هناك واحدة؛ الإجبار (الممتد) المحفور في النظام نفسه يُتَرجَم هنا إلى مسألة خطيئة شخصية، وضعف نفسي خاص، كما قال لاهوتي مقرب من البابا: “الأزمة الحالية ليست أزمة رأسمالية ولكن أزمة أخلاقية”. ملمحا بحذر إلى أن المتظاهرين عليهم أن يستهدفوا الظلم والجشع والاستهلاكية،… إلخ، بدلا من الرأسمالية نفسها. يمكننا أن نهنيء اللاهوتي على أمانته بالقدر الذي صاغ به بشكل واسع النفي المتضمن في النقد المؤَخلِق: الفكرة في التأكيد على أن الأخلاقية هي منع نقد الرأسمالية. دورة الدفع الذاتي للرأسمالية تظل الواقع المطلق لحيواتنا بشكل أكبر من السابق، الوحش الذي لا يمكن السيطرة عليه في الحقيقة. هذا يحيلنا إلى حظرنا الثاني: علينا أن نرفض النقد المبسط لـ “الرأسمالية المالية” – وكأن هناك شكل آخر “أكثر عدالة” من الرأسمالية.
علينا أيضا أن نتجنب ببساطة الإغواء الذي يجعلنا نعجب بالجمال المطلق للانتفاضات المحكوم عليها بالفشل. شِعْر الفشل يجد تعبيره الأوضح في إشارة بريخت للسيد كوينير[ii]: سُئِل السيد كوينير “ما الذي تعمل عليه؟”. رد السيد ك: “أنا أقضي وقتا عصيبا؛ أنا أرتب لخطئي القادم”[1]. على أي حال فهذا التنويع على الموتيف البيكيتي القديم “افشل أفضل” ليس كافيا: ما على المرء أن يركز فيه هو النتائج التي سقطت خلفا بسبب الفشل. بالنسبة لليسار اليوم، فمشكلة “النفي المحدد”determinate negation عادت مع انتقام. أي نظام إيجابي يجب أن يحل محل النظام القديم، في اللحظة التي خفت فيها الحماس السامي للانتفاضات؟ نحن هنا نواجه ضعفا مميتا للتظاهرات الحالية، إنها تعبر عن غضب أصيل يظل غير قادر على تحويل نفسه إلى برنامج إيجابي محدد للتغيير الاجتماعي-السياسي، إنها تعبر عن روح ثورية بدون ثورة.
النظر بشكل مقرب لمانيفستو الإنديجنادوز[iii](الغاضبون) الأسبان، على سبيل المثال، يجلب بعض المفاجآت. الشيء الأول الذي يظهر هو النغمة اللا سياسية الواضحة: “البعض يعتبرنا تقدميين، والبعض الآخر محافظين. بعضنا مؤمنون وبعضنا لا. بعضنا يعتنق أيدولوجيات محددة، وبعضنا غير مسيسين، ولكننا جميعا قلقون وغاضبون من الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي نراه حولنا: الفساد بين السياسيين ورجال الأعمال وموظفي البنوك يتركنا بلا حيلة، وبلا صوت”. هم يعلنون عن تظاهرهم وفقا لـ “الحقائق غير القابلة للتغيير التي يجب أن يلتزم بها مجتمعنا: حق السكن، التوظيف، الثقافة، التعليم، المشاركة السياسية، التنمية الشخصية الحرة، وحقوق المستهلكين من أجل حياة صحية وسعيدة”. رافضين للعنف، يدعون إلى “ثورة أخلاقية. بدلا من وضع المال فوق البشر، علينا أن نعيده لخدمتنا. نحن بشر ولسنا منتجات. أنا لست منتج لما أشتريه، أو لم أشتره، أو من أشتريه منه”. من السهل تخيل أن الفاشي الأمين يوافق برضا على كل هذه المطالب: “وضع المال فوق البشر” – نعم، هذا ما يفعله البنكيون اليهود؛ “الفساد بين السياسيين ورجال الاعمال والبنكيين يتركنا بلا حيلة” – نعم، نحن نريد رأسماليين أمناء مع رؤية تخدم أمتهم، وليس المتبرعين الماليين؛ “نحن بشر، ولسنا منتجات” –نعم، نحن بشر ورابطتنا هي الوطن وليست السوق؛ وهكذا باستمرار. ومن سيكون الفاعل في الثورة الأخلاقية؟ بينما الطبقة السياسية بكاملها، اليمين واليسار، يتم التعامل معها كفاسدة ومنقادة بشهوة السلطة، المانفيستو مع ذلك يتكون من سلسلة من المطالب موجهة لـ – مَن؟[2]ليس الناس أنفسهم: الإنديجنادوز لم يزعموا (بعد) أن أحدا لن يفعل ذلك من أجلهم، إنهم أنفسهم (ولنعد استخدام جملة غاندي) عليهم أن يكونوا التغيير الذي يريدون أن يروه.
كرد فعل على مظاهرات باريس عام 1968، قال لاكان مقولته الشهيرة: “ما تطمحون إليه كثوريين هو سيد جديد. وسوف تحصلون على واحد”[3]. يبدو أن ملاحظته أصابت هدفها (ليس فقط) عند الإنديجنادوز، فنحن نحصل على أول إشارة لهذا السيد الجديد في اليونان وإيطاليا. ونحن نرد بسخرية على نقص البرامج الخبيرة التي قدمها المتظاهرون، فالنزوع الآن هو استبدال السياسيين العاديين بحكومة “محايدة” من التكنوقراطيين غير المسيسين (معظمهم بنكيون، في اليونان وإيطاليا). “السياسيون” الملونون راحوا، وجاء الخبراء الرماديون. هذا النزوع يتوجه بوضوح نحو دولة طواريء مستقرة وتعليق للديمقراطية السياسية (لنستعد كيف تصرفت بروكسل تجاه الأحداث السياسية في اليونان: بالذعر من إمكانية الاستفتاء، مع الارتياح من ترشيح رئيس وزراء تكنوقراطي جديد). من الأشياء المصاحبة لهذا الانتقال للتكنوقراطية غير السياسية هو التضييق الملحوظ على الحرية في أوروبا، بما يتضمن تركيا، التي تبزغ تدريجيا كنموذج جديد للرأسمالية السلطوية. مجموعة من الدلالات المشئومة (مثل اعتقال أكثر من 100 صحفي في 2011 بتهمة حمقاء وهي التآمر لقلب الحكومة الإسلامية) تشير إلى أن الرخاء الاقتصادي والليبرالية يغطيان على صعود الإسلام السلطوي. بكلمات أخرى، فتركيا في الواقع بعيدة عن الصورة الشائعة لها في الغرب؛ كدولة من المفترض أنها تُقدَم نموذجا للإسلام السياسي المتسامح.
الموقف في اليونان يبدو واعدا أكثر منه في أسبانيا، ربما بسبب التقليد الأخير للتنظيم الذاتي المتنامي (الذي اختفى في أسبانيا بعد سقوط نظام فرانكو)[4]. على أي حال فحتى في اليونان يبدو أن حركة التظاهر قد وصلت لذروتها بمصطلحات التنظيم الذاتي الشعبية. حافظ المتظاهرون في ميدان سينتاجما على مساحة حرية متساوية بلا سلطة مركزية، مساحة عامة حيث يتم توزيع المقدار نفسه من الوقت للتحدث وهكذا. ولكن عندما بدأوا يتناقشون حول ماذا سيفعلون بعد ذلك، كيف سيتحركون فيما بعد التظاهر (هل عليهم تنظيم حزب سياسي جديد مثلا)، كان الإجماع هو أن ما يحتاجونه ليس حزبا جديدا أو محاولة مباشرة للاستيلاء على السلطة، بل حركة اجتماعية مدنية يكون هدفها ممارسة الضغط على الأحزاب السياسية الموجودة. هذا غير ملائم بوضوح لمهمة إعادة التنظيم الكامل للحياة الاجتماعية. لفعل ذلك، يحتاج المرء لكيان قوي قادر على الوصول لقرارات سريعة وإدراكها بأي قوة قد تكون ضرورية.
هذا ليس كافيا إذن؛ أن ترفض الحكم غير المسيّس للخبراء؛ على المرء أيضا أن يبدأ في التفكير بجدية عما يريده من وضع التنظيم الاقتصادي المهيمن، أن يتخيل ويجرب أشكالا بديلة من التنظيم، أن يبحث عن بذور الجديد في الحاضر. الشيوعية ليست مجرد (أو المهيمن عليها هو) كرنفال من التظاهر الجماهيري الذي يجبر النظام على التوقف؛ إنها أيضا وفوق كل شيء شكل جديد من التنظيم والانضباط والعمل الكثير. بغض النظر عما يمكن أن نقوله عن لينين فقد كان واعيا جدا بهذه الحاجة الملحة لأشكال جديدة من الانضباط والتنظيم.
على أي حال فما يتبع بالضبط الضرورة الدياليكتيكية، هو هذا الحث على ابتكار أشكال جديدة من التنظيم من المفترض أن تظل بعيدة. ما يجب مقاومته في هذه المرحلة هو أي ترجمة سريعة لطاقة المتظاهرين إلى مطالبات مستقرة. لقد خلق المتظاهرون فراغا – فراغا في حق الأيدولوجيا المهيمنة، وهناك حاجة إلى الوقت لملء مساحة هذه الموضة الإيجابية. هذا هو سبب أننا لسنا بحاجة لأن نقلق كثيرا من الهجمات الموجهة لاحتلوا وول ستريت، فانتقادات المحافظين المتوقعة سهلة بما يكفي للرد عليها؛ هل المتظاهرون معادون لأمريكا؟ عندما يزعم الأصوليون المحافظون بأن أمريكا دولة مسيحية، فعلينا أن نذكر ما هي المسيحية في الحقيقة: الروح القدس، مجتمع المؤمنين الحر المتساوي المتحد بالحب. إنهم المتظاهرون هم من يمثلون الروح القدس، في حين أن وول ستريت الوثنية مستمرة في عبادة أصنام زائفة (مجسدة في تمثال الثور[iv])، هل المتظاهرون عنيفين؟ حقيقي أن لغتهم ربما تبدو محاربة (احتلوا! وهكذا) ولكنهم عنيفون فقط بطريقة عنف المهاتما غاندي نفسها، إنهم عنيفون بالقدر الذي يريدون فيه أن يضعوا عائقا في الطريق الذي تمضي عليه الأشياء – ولكن كيف يقارن هذا بالعنف المحتاج للحفاظ على التوظيف السهل للنظام الرأسمالي العالمي؟ يقال عنهم فاشلون – ولكن ألم يكن الفاشلون الحقيقيون هم هؤلاء الذين تطلًّب إنقاذهم مئات المليارات من الدولارات في وول ستريت؟[v]يقال عنهم اشتراكيون – ولكن هناك في الولايات المتحدة اشتراكية بالفعل للأغنياء، هم متهمون بعدم احترام الملكية الخاصة – ولكن تكهنات وول ستريت التي أدت للانهيار في 2008 أفنت من الملكيات الخاصة التي اكتسبها أصحابها بكل صعوبة أكثر من أبعد ما يستطيع المتظاهرون الوصول إليه.
المتظاهرون ليسوا شيوعيين، إن كانت الشيوعية تشير إلى النظام الذي سقط عن استحقاق في عام 1990. الطريقة الوحيدة التي يكونون بها شيوعيين هي أنهم يهتمون بالشيوع – شيوع الطبيعة، المعرفة – الذي يهدده النظام. يتم التعامل معهم على أنهم حالمون، ولكن الحالمين الحقيقيين هم هؤلاء الذين يفكرون أن الأشياء يمكن أن تمضي بلا شك بالطريقة التي تمضي بها، مع تعديلات ظاهرية فحسب. هم بعيدون عن كونهم حالمين، فهم يستيقظون من حلم تحول إلى كابوس، إنهم لا يدمرون أي شيء، ولكنهم يواجهون نظاما في عملية تدمير ذاتي تدريجي. المتظاهرون ببساطة يدعون من هم في السلطة للنظر إلى أسفل، إلى الهاوية المفتوحة تحت أقدامهم.
هذا هو الجزء السهل. ولكن المتظاهرين يحتاجون أيضا إلى أن يحذروا، ليس فقط من أعدائهم، ولكن من الأصدقاء الزائفين الذين يزعمون أنهم يدعمونهم بينما هم يعملون بجد على إضعاف تظاهرهم، ويحيلونه إلى إشارة أخلاقية غير مؤذية.
تظاهرات وول ستريت كانت بالتالي بداية، وبلا شك فإن على المرء دوما أن يبدأ بهذه الطريقة، بتعبير شكلي عن الرفض الذي يكون أهم مبدئيا من أي محتوى إيجابي – مثل هذا التعبير فقط يفتح فضاء لمحتوى جديد.
رمز وول ستريت هو تمثال الثور في وسطه – ورد الفعل العادي تجاه التظاهرات اتخذ – حقا وغالبا – شكل خراء الثور bullshit. في مقالة رأي بالواشنطن بوست، قدمت آن آبلبوم[vi]على أي حال نسخة معقدة ومعطرة، تتضمن إشارات إلى مونتي بايثون[5]. وطالما كانت نسخة آبلبوم تطلب مقترحات أكثر استقرارا تدعم الأيدلوجيا في قمة نقائها، فهي تستحق أن نقتبسها بالتفصيل. أساس منطقها هو أن المظاهرات في أنحاء العالم كانت “متشابهة في حاجتها للتركيز، وفي طبيعتها الأولية، وفوق كل شيء في رفضها الارتباط بالمؤسسات الديمقراطية القائمة”. تكمل:
“في نيويورك، صاح المشاركون بالمسيرات (هذا ما تبدو عليه الديمقراطية). ولكن في الحقيقة، ليس هذا ما تبدو عليه الديمقراطية. هذا ما تبدو عليه حرية التعبير. تبدو الديمقراطية أكثر إثارة للضجر. تتطلب الديمقراطية مؤسسات، انتخابات، أحزاب سياسية، أحكام، قوانين، قضاء، والعديد من النشاطات الباهتة المستهلكة للوقت… إلا أنه بمعنى ما، ففشل حركة “احتلوا” الدولية في إنتاج مطالبات شرعية مؤثرة مفهوم: كل من مصدريّ الأزمة الاقتصادية العالمية وحلولها تقع بطبيعتها خارج قدرة السياسيين المحليين والعالميين.
بزوغ حركة تظاهر دولية بدون برنامج متماسك هي بالتالي ليست مصادفة: إنها تعكس أزمة أعمق، أزمة بدون حل واضح. الديمقراطية مؤسسة على حكم القانون. الديمقراطية تعمل فحسب داخل حدود واضحة وبين أناس يشعرون بأنفسهم كجزء من الدولة نفسها. “مجتمع دولي” لا يمكن أن يكوِّن ديمقراطية وطنية. وديمقراطية وطنية لا يمكن أن تطلب الوفاء بمحفظة وقائية عالمية من مليار دولار، بقياداتها المحتمين بملاذ من الضرائب وموظفيها المتناثرين حول العالم.
على خلاف المصريين في ميدان التحرير، الذين يقارن المتظاهرون في لندن ونيويورك أنفسهم بهم بشكل واسع (وأحمق)، فنحن لدينا مؤسسات ديمقراطية في العالم الغربي. إنها مصممة لتعكس – على الأقل بشكل فظ – الرغبة في التغيير السياسي في دولة محددة. ولكنها لا تستطيع تجاوز الرغبة في التغيير السياسي العالمي، ولا تستطيع السيطرة على الأشياء التي تحدث خارج حدودها. على الرغم من أنني لا زلت أؤمن باقتصاد العولمة ومعتقداتها الروحية – إلى جانب الحدود المفتوحة وحرية الحركة والتجارة العالمية – فالعولمة بدأت بوضوح في خلخلة شرعية الديمقراطيات الغربية.
النشطاء “العالميون” إن لم يكونوا حريصين، فسيزيدون من سرعة الانهيار. يصرخ المتظاهرون في لندن: “نحتاج أن يكون لدينا تقدم!” حسنا، هم بالفعل لديهم عملية تقدم: يُطلًق عليها النظام السياسي البريطاني. وإن لم يعرفوا كيفية استخدامه، فسوف يضعفونه بشكل أكبر”[6].
أول شيء نلاحظه هو اختصار آبلبوم لمظاهرات ميدان التحرير كنداء من أجل الديمقراطية على النمط الغربي – في اللحظة التي نقوم فيها بهذا، فبالطبع يكون من العبثي أن نقارن مظاهرات وول ستريت بالانتفاضات المصرية: كيف يطالب المتظاهرون هنا بما يملكونه بالفعل، أي المؤسسات الديمقراطية؟ الشيء الفائت في هذه النظرة بالتالي هو الضيق العام من النظام الرأسمالي العالمي، الذي يتخذ بوضوح أشكالا مختلفة في أماكن مختلفة. ولكن أكثر الأجزاء الصادمة في مقالة آبلبوم، هو الفجوة الواسعة بالفعل في الحجة، والتي تظهر في نهايتها؛ بعد الإذعان إلى أن النتائج الديمقراطية غير المستحقة للتمويل الدولي الرأسمالي تقبع فيما وراء سيطرة الميكانيزمات الديمقراطية، التي هي مقتصرة بطبيعة الحال على الدول-الوطنية، تحدد الاستنتاج الضروري بأن “العولمة بدأت بوضوح في خلخلة شرعية الديمقراطيات الغربية”. يمكننا القول إن هذا جيد حتى الآن. هذا بالضبط ما يضمنه المتظاهرون – أن الرأسمالية العالمية تخلخل الديمقراطية. ولكن بدلا من تحديد الاستنتاج المنطقي الوحيد – أنه علينا أن نبدأ بالتفكير في كيفية توسيع الديمقراطية فيما وراء شكل الدولة متعددة الأحزاب، التي فشلت بوضوح في مناسبة النتائج الهدامة للحياة الاقتصادية العالمية – تعبر عن نمط “للخلف در” غريب من أجل تحويل اللوم على المتظاهرين أنفسهم، تحديدا الذين بدأوا في طرح هذه الأسئلة ذاتها. الفقرة الأخيرة تستحق أن تعاد قراءتها بحرص: طالما أن الاقتصاد العالمي هو فيما وراء منظور السياسات الديمقراطية، فأي محاولة لتوسيع الديمقراطية من أجل اعتناقها ستسرع فحسب من انهيار الديمقراطية. ما الذي يمكننا فعله بالتالي؟ إعادة الارتباط بالنظام السياسي القائم الذي هو في الحقيقة غير قادر على القيام بهذا العمل وفقا لرؤية آبلبوم نفسها.
هنا علينا أن نمضي في الطريق كله حتى النهاية؛ لا يوجد نقص في العاطفة المعادية للرأسمالية اليوم؛ إن كان هناك شيء محملون به بشكل متضاعف فهو انتقادات فظائع الرأسمالية. ولكن الذي لا يخضع للتساؤل أبدا هو الإطار الديمقراطي المؤسسي لدولة القانون (البرجوازية) ذاته. يظل هذا هو البقرة المقدسة التي لا تجرؤ حتى الأشكال الأكثر راديكالية من “معاداة الرأسمالية الأخلاقية” هذه على مواجهتها.
هنا تظل رؤية ماركس الرئيسية صالحة، اليوم أكثر من أي وقت مضى. بالنسبة لماركس لا يجب أن يوضع سؤال الحرية أساسا في المناخ السياسي الصالح (هل في البلد حرية انتخابات؟ هل القضاة مستقلون؟ هل الصحافة حرة من الضغوط المختبئة؟ هل يتم احترام حقوق الإنسان؟… إلخ). المدخل الحقيقي للحرية يقع بالأحرى في شبكة العلاقات الاجتماعية، من السوق إلى الأسرة، حيث يكون نوع التغيير المطلوب – إن كنا نريد تقدما حقيقيا ليس في الإصلاح السياسي – ولكن تغيير في علاقات الانتاج الاجتماعية “غير السياسية”. نحن لا نصوّت على من يملك ماذا، أو على العلاقات في مصنع وهكذا، لأن كل هذا يعتبر خارج نطاق السياسي، ومن المتوهم أن نتوقع أن المرء يمكنه تغيير الأشياء عن طريق “مد” الديمقراطية إلى هذا النطاق، عن طريق، قل تنظيم البنوك “الديمقراطية” تحت رقابة الشعب. التغييرات الراديكالية في هذا النطاق يجب أن تتم خارج نطاق “الحقوق” القانونية”… إلخ: لا يهم كم هي معاداتنا للرأسمالية راديكالية، لو لم يتم فهم ذلك، فالحل المرجو سيدور حول تطبيق ميكانيزمات ديمقراطية (التي هي بالطبع يمكن أن يكون لديها دور إيجابي لتلعبه) – على المرء ألا ينسى أن هذه الميكانيزمات التي هي ذاتها جزء من كيان الدولة “البرجوازية” الذي يضمن استمرار إعادة الإنتاج الرأسمالي بدون إزعاج. اليوم، يضع باديو يده على هذه النقطة في زعمه الغريب الواضح بأن “اليوم، فالعدو لا يدعى الإمبراطورية أو رأس المال، إنما يدعى الديمقراطية”[7]. إنه “الوهم الديمقراطي”، قبول أن الإجراءات الديمقراطية هي إطار العمل الأساسي لأي تغيير ممكن، هذا الذي يمنع أي انتقال في العلاقات الرأسمالية.
هناك بالتالي أسباب عميقة للصعوبة القائمة في تشكيل برنامج ثابت. ولكن المتظاهرين لفتوا النظر لمشكلتين رئيسيتين؛ أولا النتائج الاجتماعية الهدامة للنظام الرأسمالي العالمي: مئات المليارات فُقِدَت بسبب المضاربة المالية غير المسيطر عليها، وهكذا. ثانيا؛ العولمة الاقتصادية تخلخل تدريجيا شرعية الديمقراطيات الغربية. باتخاذها الصفة الدولية، فالعمليات الاقتصادية واسعة المدى لا يمكن ان يُسَيطَر عليها بالميكانيزمات الديمقراطية، التي هي مقتصرة بطبيعة الحال على الدول الوطنية. لهذا السبب يختبر الناس بشكل متزايد كون المؤسسات الديقراطية فاشلة بمصطلحات التعبير عن مصالحهم الحيوية. تحت هذه الوفرة من التصريحات (المرتبكة عادة)، تقدم حركة احتلوا وول ستريت رؤيتين أساسيتين: (1) الضيق الشعبي المعاصر هو تجاه الرأسمالية كنظام – المشكلة هي في النظام ذاته، ليس في أي شكل فاسد محدد منه؛ (2) الشكل المعاصر من الديمقراطية التمثيلية متعددة الأحزاب غير قادرة على التعامل مع الإفراطات الرأسمالية؛ بكلمات أخرى، هذه الديمقراطية يجب أن يعاد ابتكارها. هذا يحيلنا إلى أساس المشكلة الحرجة في تظاهرات وول ستريت: كيف نمد الديمقراطية فيما وراء شكلها السياسي القائم، الذي ثبت عجزه في مواجهة النتائج الهدامة للحياة الاقتصادية؟ هل يوجد اسم للديمقراطية المعاد ابتكارها فيما وراء النظام التمثيلي متعدد الأحزاب. هناك حقا: ديكتاتورية البروليتاريا.
في كتاب حديث (ذو عنوان ملتف بشكل رائع: ساركوزي: أسوأ من المتوقع/ الآخرون: توقعوا الأسوأ)[vii]قدم باديو حجة تفصيلية في مواجهة المشاركة في التصويت “الديمقراطي”: حتى عندما تكون الانتخابات “حرة” في الحقيقة، وحتى عندما يكون لمرشح أفضلية واضحة على الآخر (قل، معاد للعنصرية يقف في مواجهة شعبوي معادي للمهاجرين)، فعلى المرء أن يفصل نفسه عن التصويت، طالما أن شكل الانتخابات المتعددة الأحزاب ذاته تنظمه دولة فاسدة على المستوى الشكلي والترانسندنتالي. ما يهم هو فعل التصويت الشكلي، المشاركة في العملية، التي تشير إلى قبول للشكل نفسه باستقلال عن الخيار المحدد الذي يتخذه المرء. الاستثناءات التي يستطيع المرء أن يصنعها للحكم العالمي تحدث في هذه اللحظات النادرة عندما يكون المضمون (واحد من الخيارات المقدمة) مخلخلا ضمنيا لشكل التصويت. بالتالي فعلى المرء أن يحمل في ذهنه التناقض الدائري الذي يدعم “الانتخابات الحرة” في مجتمعاتنا الديمقراطية: المرء حر في الاختيار في حالة أن يتخذ الخيار الصحيح – هذا هو سبب أنه عندما يتم التوجه لخيار غير مقبول يتم التعامل مع ذلك على أنه خطأ، والنظام القائم يفرض فورا تكرارا للتصويت من أجل أن يعطى للبلد الفرصة لتصحيح خطئها والتوجه للخيار الصحيح.
هذا هو سبب أنه ليس علينا أن نخاف من تقديم النتيجة المتوافق عليها الوحيدة من الحقيقة، التي لم يستقر عليها الديمقراطيون الليبراليون. لقد انتهى الربيع المصري (حتى الآن، وإن كانت المعركة بعيدة عن نهايتها) بالانتصار الانتخابي للإسلاميين الذين كان دورهم في الثورة المضادة لمبارك في 2011 لا يذكر: “الانتخابات الحرة” أو الثورة التحررية الأصيلة – على المرء أن يختارها. لنضع ذلك بمصطلحات روسو، كانت هناك جماهير في ميدان التحرير، وإن كانت حسابيا أقلية، جسدت الإرادة العامة الحقيقية – وبالنسبة لحركة احتلوا وول ستريت، كانت جماهير صغيرة تلك التي في حديقة زوكوتي التي وقفت من أجل الـ “99 بالمائة” وكانت مُبَررة في عدم ثقتها في الديمقراطية المؤسسية.
بالطبع سيبقى السؤال: كيف نستطيع مأسسة صناعة القرار الجمعي فيما وراء إطار عمل النظام متعدد الأحزاب الديمقراطي؟ أو لنقل ذلك بشكل فظ: من يعلم ما ينبغي فعله اليوم؟ لا توجد ذات تعرف، لا في شكل المثقفين ولا الناس العاديين. هل هناك مأزق إذن، حالة الأعمى الذي يقود أعمى، أو بدقة أكبر، أعمى يقود أعمى في حين أن كلا منهما يفترض أن الآخر بإمكانه الرؤية؟ لا، لأن الجهل المزدوج ليس سيمتريا. إنهم الناس الذي يملكون الإجابات، إنهم فقط لا يعرفون الأسئلة التي يملكون (أو بالأحرى هم) إجابتها.
ترجمة كتاب “سنة الأحلام الخطيرة” تصدر كاملة قريبا عن دار التنوير
[2] أثناء حلقة نقاشية عامة في بروكسل، عضو من الإندجنادوز رفض نقدي، مجادلا بأنهم يعرفون بالضبط ما الذي يريدونه: تمثيل سياسي أمين وواضح في الانتخابات، حيث يقف اليسار وراء اليسار الحقيقي واليمين وراء اليمين الحقيقي. هذه الاستراتيجية الكونفوشية عن “تصحيح الأسماء” هي، على أي حال، غير كافية بوضوح ،إن كانت المشكلة ليست فقط فساد الديمقراطية التمثيلية، بل “الفساد” المحايث في فكرة الديمقراطية التمثيلية نفسها.
[3] Jacques Lacan at Vincennes, December 3, 1969: “Ce a quoi vous aspirezcomme révolutionnaires, c’est a un Maître. Vous l’aurez.”
[4] على الرغم من أن القومية اليونانية هي أيضا تصعد في اليونان، موجهة غضبها تجاه الاتحاد الأوروبي إلى جانب المهاجرين؛ واليسار يردد صدى هذا التوجه القومي، موجها انتقاداته للاتحاد الأوروبي بدلا من توجيه عين ناقدة لماضيه – محللا، على سبيل المثال، كيف أن حكومة آندرياس بومباندريو أسهمت بشكل حاسم في تأسيس الدولة اليونانية “الزبونية” clientelist.
[5] علّقت بشكل لاذع على أن تكرار “الميكروفون البشري” لكلمات المتحدث من قبل الجماهير المجتمعة حولها مشابهة للمشهد الشهير من فيلم “حياة بريان (فيلم بريطاني كوميدي أنتج عام 1979 من قبل فرقة مونتي بايثون الكوميدية المذكورة أعلاه. أ.ز)” الذي تكرر فيه الجماهير بدون فهم كلمات بريان “نحن جميعا أفراد!” بالطبع هذه الملاحظة غير عادلة على الإطلاق، فآبلبوم تتجاهل حقيقة أن المتظاهرين تصرفوا بهذا الشكل لأنهم تم منعهم من قبل البوليس من استخدام مكبرات صوت – التكرار كان غرضه التأكيد على أن كل شخص يسمع ما يقوله المتحدث. على المرء مع ذلك أن يعترف بأن التكرار الميكانيكي أصبح سريعا طقسا لهم، مولدا متعته jouissance الذي يكون اقتصاده منفتحا على النقد.
[6] Anne Applebaum, “What the Occupy Protests Tell Us About theLimits of Democracy,” Washington Post, October 18, 2011, available at washingtonpost.com.
[7] Alain Badiou, “Prefazione all’edizione italiana,” in Metapolitica, Napoli: Cronopio 2002, p. 14.
[i] “Main Street, not Wall Street,”وهو يعني الاهتمام بالشوارع الرئيسية التي تهتم بالأعمال الصغيرة، في مقابل “وول ستريت” الشارع الذي يضم العديد من الأنشطة الاقتصادية الكبرى في نيويورك والمعبر عن اقتصاد السوق الرأسمالي.
[ii] عن كتاب قصص السيد كوينير لبريخت
[iv] الإشارة إلى الثور المهاجم Charging Bull التمثال الموجود بالقرب من وول ستريت بنيو يورك، والذي يعبر غالبا عن قوة الاقتصاد الأمريكي.
[v] الإشارة إلى خطة الإنقاذ الاقتصادية التي تبنتها إدارة بوش الابن في سبتمبر 2008 التي دفعت 700 مليار دولارا من نقود دافعي الضرائب الأمريكان لإنقاذ البنوك من الإفلاس أثناء الأزمة الاقتصادية العالمية بالعام نفسه.