بعيدا عن الطابع العسكري لم تعد الكاريزما هي الحل
كتب – أمير زكي
يقف أربعتهم في كلية التجارة بجامعة القاهرة في اليوم التالي الذي زار فيه جامعتهم رئيس جمهورية مصر الحالي محمد مرسي وألقى أحد خطاباته بعد توليه السلطة.. ترى رحاب أن خطاب الجامعة كان جيدا خاصة أن مرسي أظهر احترامه للطلاب باعتذاره عن تأجيل امتحاناتهم، بينما يرى شعراوي ومحمود أن العبرة تكون بالصدق في الكلام الذي قاله، بينما تتشكك أميرة التي ترفضه من البداية في خروجه عن تأثير جماعة الإخوان المسلمين.
في خطابه الأول بمبنى التلفزيون وقف رئيس جمهورية مصر محمد مرسي يخطب في الشعب المصري، يرتدي نظارة طبية، مطلقا لحيته، شعره مصفف “على جنب”، يبدأ الخطاب بآية قرآنية، ويدعو الشعب المصري “بأهلي وعشيرتي وإخواني وأبنائي”، الخطاب تضمن أيضا شكر من رئيس مصر المنتخب إلى كل محافظة مصرية، وأيضا شكر العديد من العاملين بالمهن المختلفة بمصر حتى سائقي التوكتوك، هذا الشكر لكل فصيل بمصري بالاسم جعل أحد شباب الفيديوهات الساخرة على اليوتيوب يخلط بين الخطاب وبين “نوباتشي” في فرح شعبي يقول للحاضرين “واللي يحب ربنا يرفع إيده لفوق” كسخرية من كلمة مرسي.
قد ينزع البعض للسخرية من البساطة والشعبية في كلمة مرسي ومن أدائه كرئيس للجمهورية، لكن البعض الآخر قد يحتفي بهذه البساطة والشعبية التي تشبه كلمات شخص بسيط يحتفل في مناسبة سعيدة، ولكن سواء مال المتابع لأداء مرسي لهذا الرأي أو ذاك فهو بلا شك لن ينزع عن ذهنه المقارنة بينه وبين حكام مصر السابقين.
صورة حاكم المصريين تباينت على مر العصور، ما بين الفرعون الإله في مصر القديمة، إلى الغزاة بكافة أشكالهم الذين تم التعامل معهم بخوف ممزوج بالاحتقار، حتى عاد الحكم المصري بقيادة جمال عبد الناصر الذي كانت صورته أشبه بصورة المصريين، قادم من الصعيد، يتحدث عن العدالة والكرامة، يتعامل مع العالم الغربي بمنطق الند وبمنطق ابن البلد، زوجته غير معروفة للشارع المصري كزوجات المصريين، بالإضافة إلى كونه خطيبا مفوها يتحدث مع المصريين من قلبه، إلى جانب خلفية عسكرية تضيف عليه بعض ملامح الجدية والبطولة.
تحول الأمر مع الرئيس السادات الذي كان يمارس أداء أمريكيا كرئيس للجمهورية، إذ اهتم بصورته وأناقته وملابسه، ظهر دور كبير لزوجته ذات الأصول الإنجليزية، بالإضافة إلى اهتمامه بالدين كرئيس لبلد شرقي وعريق دينيا. ورغم أن هذه الصورة كانت مبهرة لوسائل الإعلام العالمية، إلا أنها لم تثر كثيرا المصريين.
سار الرئيس السابق مبارك على خطى تشبه خطى الرئيس السادات، ولكن مبارك الذي لم يكن يتمتع بكاريزما السادات، ولم يعش مثله قصص كبرى على المستوى المحلي أو العالمي لم يكن أداءه مرضيا، فالضجر مثلا الذي كان يصيب مستمعي خطبه المتشابهه التي كان يقرأها في المناسبات الوطنية كان هو سمة عصره الراكد لفترات طويلة، ولم يجد من حوله بطولة تنسب إليه سوى قيادته للضربة الجوية في حرب أكتوبر، أو نسب صفة الحكمة إليه على مستوى السياسة الخارجية، تلك الصفة التي ظهر افتعالها بصورة مركبة بجريدة الأهرام يظهر فيها متقدما أوباما ونتنياهو وأبو مازن والملك عبد الله، رغم أنه كان في مؤخرة هذه المجموعة.
“مرسي ليس لديه ما يعايرنا به”. تقول د. عزة عزت أستاذة الإعلام بجامعة المنوفية وصاحبة كتاب صورة الرئيس (مركز الحضارة العربية 2005)، مشيرة إلى أن حكام مصر السابقين كانوا دائما ما يستندون على بطولة لتتيح لهم الشعبية في مصر. وتضيف: “لكن قد يفيده الظرف التاريخي المتعلق بثورة شعبية مثلما أفادت الظروف التاريخية من قبله”.
ترى د. عزة أن مرسي قدم رسائل متنوعة في خطبه السابقة، فهو تعامل بذكاء سياسي عندما حلف اليمين في المحكمة الدستورية وقبلها في ميدان التحرير، ثم في جامعة القاهرة، فهو بالتالي استقطب القضاة وأرضى العسكريين مثلما أرضى البسطاء في خطابه الأول: “وإن كان تضييقه على نفسه في الخطاب الأول بذكر كل فصيل بعينه جعله يعتذر عمن نسيهم”. وهي ترى أيضا أن خطبه قدمت رسائل متنوعة للشعب، تقول د. عزة عزت: “الخطاب الأول أظهر أنه طيب وعطوف، أما خطاب ميدان التحرير فقد كان موجها للثوار”. ترى د. عزة عزت أننا حتى الآن كل ما نستطيع أن نحكم عليه هو الصورة التي قدمها محمد مرسي وليس شخصيته التي ستظهر مع الوقت، ولكنها مع ذلك تقول: “مرسي انتصر على الانطباع الأول المأخوذ عنه، من كونه لا يتمتع بكاريزما ويميل للتبعية، فتقرب من البسطاء والثوار وتصرف بشكل فيه شجاعة”.
بالمقارنة ببدايات الحكام السابقين تقول د. عزة عزت: “كل الحكام كانوا محبوبين في البداية، وكل البدايات كانت مشرقة”.
ربما يعود هذا إلى الملك فاروق، الذي كان الاحتفال بتنصيبه ملكا على مصر حاشدا، كذلك ثورة يوليو التي استقبلها الشعب بإيجابية خاصة في صورة الرئيس محمد نجيب، احتاج كل من عبد الناصر والسادات لأحداث تعزز صورتيهما لدى الشعب المصري، سواء كان ذلك بدون قصد منهما كما يقال عن حادث تعرض الرئيس جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال في المنشية، أو مقصودا كصفقة الأسلحة التشيكية وتأميم قناة السويس في مواجهة جريئة وصريحة مع قوى الاستعمار الغربي، أو حرب أكتوبر التي قادها السادات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء.
صناعة الآلهة
في روايته “ثرثرة فوق النيل” التي كانت ضمن مجموعة روايات تضمنت انتقادا سياسيا لفترة الستينيات كتب نجيب محفوظ: “لم يكن عجيبا أن يعبد المصريون فرعون ولكن العجيب أن فرعون آمن بأنه إله.”هذه الحقيقة التاريخية التي عندما تكتب تتحول إلى مفارقة مثلما في جملة محفوظ تمثل نمط متكرر في علاقة الشعب المصري بحكامه، فالتقدير الأولي للحاكم الذي غالبا ما يتعزز بعمل جليل أو بطولة، يتحول إلى تأليه، يستغله هذا الحاكم وحاشيته فيما بعد، ويتحول إلى وبال على المصريين. ومن البداية هناك أصوات ترفض انتقاد مرسي بأشكال متنوعة، فما أن خرجت أصوات منتقدة شكل الملابس التي ترتديها زوجته حتى تم الهجوم على المنتقدين بحجة أنها تشبه العديد من أمهات المصريين، بالإضافة إلى أن أي انتقاد مبكر له يقابل بكلمات تشبه: “اتركوا له فرصة”. يقول د. عاصم الدسوقي المؤرخ والعميد السابق بكلية الآداب: “هذه هي طريقتنا، حرّص ولا تخّون”.
ولكن ما أن ذكرت توصيف خطاب مرسي الأول بأنه خطاب شعبي أمام د. عاصم الدسوقي حتى قال: “هل ستبدأون بصناعة الآلهة؟!”.
لم ير د. عاصم الدسوقي أن الخطاب على بساطته كان شعبويا، يقول: “كان خطابا إخوانيا دينيا يعتمد على مصطلحات مثل (أهلي وعشيرتي)”. ولأنه يستخدم آيات قرآنية يرى الدسوقي أنه يشبه في ذلك تجربة السادات، ولكن بعد خطابه في جامعة القاهرة، يرى الدسوقي أنه يستخدم تفاصيل ناصرية، يقول: “إنه حتى يتحرك في نفس دوائر عبد الناصر العربية والإسلامية”.
لا يرى د. عاصم الدسوقي في محمد مرسي شخصية كاريزمية، يقول عنه: “هو لا يبتسم ولا يشعرك بالألفة، وبالتالي أنت تخاف منه ولا تثق فيه”. ولكن هل هذه الصفات ستؤثر على تجاوب الشعب معه، يقول: “المواطن العادي لا يهمه من الرئيس سوى قضاء مصالحه وحوائجه، بعدها فليفعل ما يفعل”. ويرى الدسوقي أن هذا الرئيس الذي يمثل ما يسميه الدولة المعيلة لم يأت في تاريخ مصر سوى مع محمد علي وجمال عبد الناصر.
يعتبر البعض أن عدم وجود بطولة سابقة لمرسي ملمح إيجابي، فهو يعني أن يتخلص المصريون من فكرة الرئيس الإله والقائد والحكيم نحو رئيس موظف.
***
العالم يتقبل الاختلاف
ذكر أبيض وبروتستانتي، هذه هي الشروط غير المكتوبة التي اعتاد المواطن الأمريكي أن يكون رئيسه حاصلا عليها، ولكن في انتخابات عام 1960 بأمريكا ترشح جون كينيدي الكاثوليكي لرئاسة الولايات المتحدة، ولكي يخفف وطأة الاختلاف على الشعب الأمريكي قال في أحد خطاباته: “أنا لست مرشحا كاثوليكيا للرئاسة، أنا مرشح الحزب الديمقراطي وصادف أن أكون كاثوليكيا”. وأمام شائعة كونه سيتلقى التعليمات من بابا روما، قال في خطاب آخر: “لا تتوقعوا مني أن أدافع عن كل تصرف أو تصريح من كل بابا أو قس”.
كان كينيدي يحاول في حملته ألا يعتبر الأمريكيون الكاثوليكية معيارا للحكم عليه، أو لتفضيل المرشح المنافس ريتشارد نيكسون المنتمي للحزب الجمهوري والبروتستانتي للأسباب الدينية.مع نهاية العام استطاع جون كينيدي أن يفوز بالانتخابات بفارق ضئيل على نيكسون.
48 عاما مرت قبل أن توضع الولايات المتحدة في اختبار صعب مشابه، اختبار الرجل الأبيض البروتستانتي، واختبار قدرتها على تقبل الاختلاف، حينما وصل الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما مرشح الحزب الديمقراطي لينافس على الرئاسة أمام جون ماكين، كان التشكك كبيرا في أن يقبل الناخب الأمريكي أفريقيا أمريكيا ليكون رئيسا لبلده، ولم يكن أوباما يحارب على هذه الجبهة فقط، فقد كان عليه أيضا أن يفند ما قيل عنه أنه مسلم الديانة، خاصة لأن أبيه الكيني من أصول مسلمة، إذ قال في أحد خطاباته في 2008: “لقد كنت أتوجه إلى نفس الكنيسة المسيحية لمدة عشرين عاما، لقد أقسمت على الكتاب المقدس، وطالما كنت في مجلس الشيوخ الأمريكي فقد أقسمت يمين الولاء للعلم الأمريكي، لذا فإذا وصلكم بريد إلكتروني سخيف، فأعيدوه لصاحبه وأخبروه أن هذا جنون. ومن الأفضل أن تتعلم”. وكان يشير إلى حملة بالبريد الإلكتروني تدور على المواطنين الأمريكيين لتقنعهم بأن أوباما مسلم. ولكن كون أوباما أفريقيا أمريكيا أو كون عائلة أبيه مسلمة، أو حتى كونه قد جاء من طبقة ربما أقل من المتوسطة وكذلك زوجته ميشيل لم يمنعه من أن يفوز على جون ماكين ربما لأسباب تتعلق بصغر سن أوباما بالمقارنة بمنافسه، أو بقدرته الباهرة على الخطابة وبرنامجه المتوجه لقضايا طبقات أوسع.
الرئيس المختلف لبلد ما هو نتاج تأثير وتأثر بالثقافة التي ينتمي إليها، عندما فاز الفرنسي فرانسوا أولوند برئاسة جمهورية بلده لم يصطحب مع إلى قصر الإليزيه زوجة رسمية بل اصطحب صديقته فاليري تريافيلر، لتقول الصحف العالمية أنها “الصديقة الأولى”، بدلا من “السيدة الأولى”.
الصور المختلفة للحكام الجدد للبلاد قد تقابل برفض في البداية خاصة بالمقارنة بالحكام السابقين، ولكن قد تعتاد الشعوب عليها مع الوقت، وتبقى الصورة هي الظاهر من أداء الرؤساء والحكام، ويبقى أداؤه العملي في النهاية هو المقياس الأهم للحكم عليهم.
نُشر بجريدة الشروق 8 يوليو 2012