أخبار الأدب

توماس ترانسترومر: الشاعر الذى تنبأ بشلله

الحرية بالنسبة له مسألة حياة أو موت
الشاعر الذى تنبأ بشلله
بيل كويل
ترجمة: أمير زكى

***
فى كل عام، مع اقتراب إعلان جائزة نوبل، يحبس مريدو الشاعر السويدى  توماس ترانسترومر أنفاسهم، متمنين فوزه، فوز رجلهم ليس متوقعا لأسباب كثيرة، من عام 1974 لم يفز سويدى أو سكندنافى بالجائزة، وهناك أيضا الحقيقة التى تقول أن اختيار الفائز يعتمد على الموقف السياسى بنفس قدر الاعتبارات الأدبية. ترانسترومر ليس شاعرا غير سياسى، ولكنه لا يعانى من قمع من الدولة كألكسندر سولجنستين وجوزيف برودسكى، ولا يوجد ما يدل على أنه يتحدث عن شعبه كسيموس هينى وديريك والكوت، ولا يواجه بشدة الولايات المتحدة كهارولد بنتر.
ومع ذلك فترانسترومر ليس مغمورا. من 1975 عندما ضمه روبرت بلى مع جونار إيكيلوف وهارى مارتينسون ضمن كتاب (أيها الأصدقاء، لقد شربتم بعضا من الظلام)، هذه العنوان الذى اتخذ من قصيدة ترانسترومر (رثاء)، سمعته كانت تزيد باستمرار. اليوم هو معروف على أنه واحد من أفضل الشعراء الأحياء، هذا يعتمد كثيرا على ترجمات أعماله إلى 50 لغة.
أكثر ما يميز شعر ترانسترومر هو موهبته الكبيرة فى صنع الاستعارات. هذا كان بينا فى كتابه الأول (1954) ومن السطور الأولى من قصيدته الأولى “افتتاحية”:
الاستيقاظ هو قفزة بارشوت من الأحلام.
حر من الاضطرابات الخانقة، المسافر
يغرق تجاه المساحة الخضراء من الصباح”.
حتى هذه الجمل من “شوارع شنجهاى” (1989):
“أنا محاط بعلامات لا أستطيع تفسيرها، أنا جاهل تماما
ولكنى دفعت ما يجب علىّ أن أدفعه ولدىّ فواتير لكل شىء
لقد كدّست العديد من الفواتير غير المفهومة
أنا شجرة كبيرة بأوراق ذابلة معلقة ولا تستطيع السقوط على الأرض”.
وزفرة ريح من عند البحر تجعل الفواتير تصدر حفيفا”
وحتى أول جزء من قصيدة “الثلج يسقط” (2004):
“الجنازات تأتى باستمرار
الكثير والكثير منها
كإشارات المرور
ونحن نقترب من المدينة”
كل استعارة تكون مذهلة وتلقى ضوءا جديدا على خبراتنا الشائعة. وفى نفس الوقت، كل واحدة منها تبدو وكأنها انبثقت بشكل طبيعى من موضوعها، جزئيا فسبب ذلك أن الشاعر لا يطنطن كثيرا لما يفعله، وجزئيا لأن مرحه الخفيف يقودنا لتخفيف دفاعاتنا. ترانسترومر ليس شاعرا كوميديا ولكنه يستطيع أن يكون مرحا بشكل كبير، حتى ولو كان داخل نقطة جادة. فى قصيدته “ضواحى العمل” يقول: “قمر الترف يحيط الكوكب، يتعامل مع كتلته ووزنه”. هذا يجعل القارئ يبتسم وإن كانت ابتسامة خفيفة.
واحدة من اهتمامات ترانسترومر الأساسية هى صعوبة بل واستحالة التواصل. هذا ليس هما مفاجئا بالنسبة لشاعر، خاصة فى العصر الحديث، ولكن ترانسترومر قلق بشكل أكثر بالموضوع وأقل غطرسة فى التعامل معه من بعض الآخرين. وعلى خلاف العديد من الشعراء الذين يشاركونه تحفظاته عن اللغة، فهو نادرا ما يؤطر هذه الصعوبات عن طريق جعل الحوار اليومى مشوشا وإشكاليا. إن جئنا عند بناء الجملة، فيمكنه أن يكون واضحا كبيلى كولينز:
“أكثرهم إرهاقا هذا الذى يأتى بالكلمات، الكلمات لا اللغة
أنا آخذ طريقى نحو الجزيرة المغطاة بالثلج
المتشرد بلا لغة
الصفحات غير المكتوبة مفتوحة على الجانبي
أنا وصلت لأثر غزالة على الثلج.
لغة ولكن بلا كلمات”.
(من مارس 1979)
هناك أيضا جانب سياسى لاهتمامه بالحقيقة والكلمات، ترانسترومر يعود كثيرا إلى فكرة أن اللغة رخصت وتشوهت، فى بعض الأحيان هدفه يكون اللغة الشعاراتية والإعلانية فى الغرب: “السرعة قوة/ السرعة قوة! العب اللعبة، العرض يجب أن يستمر”. (الجاليرى)، أو النتائج السلبية للسيطرة الأمريكية، حينما يسير فى واشنطن دى سى ويلاحظ “المبانى البيضاء فى شكل الأفران حيث أحلام الفقراء تتحول إلى رماد”. (ما بالداخل لا نهائى). وعادة ما اهتم كذلك بموقف هؤلاء الذين يعيشون خلف الستار الحديدى، خاصة دول البلطيق (التى أصبحت جمهوريات سوفيتية) إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا. فى أطول وربما أعظم أشعاره “البلطيق: 1974 كتب يقول:
“أماكن حيث المواطنين تحت السيطرة
حيث أفكارهم مصنوعة مع مخارج الطوارئ
حيث الحوار بين الأصدقاء يصبح امتحانا لمعنى الصداقة”.
هذا السياق هو جزء مما جعل كتابات ترانسترومر عن صعوبات التعبير مستمرة من ساعتها. الشاعر فى المجتمع الحر يكون حرا من العديد من القيود التى تفرضها الديكتاتورية على التعبير، ولكن مع الحرية العظيمة تأتى المسئولية. “كل جملة وكل تعبير هو نهاية وبداية/ كل قصيدة هى كلمة على شاهد قبر”. هذا ما كتبه إليوت فى “الرباعيات الأربع” والتى يعتبرها ترانسترومر ذات تأثير كبير على “البلطيق”. الكتابة هى مسألة حياة أو موت، هى فعل يعرّف الفرد فورا ويوضح ويؤثر على علاقته بالآخرين، وعلى البنى السياسية وعلى العالم غير الإنسانى.
البلطيق إلى حد ما أفضل ما يمكن أن يبدأ به القارئ الجديد لترانسترومر، إنها تتطور ببطء أكثر من قطعه القصيرة، واستعاراته قوية مثلها مثل أى مكان آخر، تكشف نفسها تدريجيا. وكما يدل العنوان، فالقصيدة تجرى فى بحر البلطيق، على جزيرة جوتلاند، وأرخبيل استوكهولم، حيث كان الشاعر ينعزل خلال حياته فى منزل أسرته الصيفى. البلطيق هى بيئة ترانسترومر الأصيلة حيث الجمع بين البحر والجزر، بين المياه الحلوة والمالحة، وبين الديمقراطيات والديكتاتوريات، على الأقل أثناء الحرب الباردة.
القصيدة تضم أيضا تأملا عميقا فى طبيعة الشخصية الإنسانية، فتظهر قصة مؤلف موسيقى فى بلد غير معروف، نفترض أنه خلف الستار الحديدى، المؤلف يتم الاحتفاء به من قبل السلطات، ثم يتم نقده، ثم – بعد إعادة تأهيله رسما – يصاب بالسكتة:
“نزيف دماغى: شلل فى الجانب الأيمن مع فقد القدرة على النطق، يستطيع
فقط فهم جمل قصيرة، يقول كلمات خاطئة.
بعيدا عن متناول الرثاء واللعنات.
ولكن تبقى الموسيقى، يظل يؤلف بأسلوبه
لبقية الأيام يتحول إلى إحساس جسدى
يكتب الموسيقى لنصوص لم يعد يفهمها
بنفس الطريقة
نحن نعبر عن شىء خلال حيواتنا
فى الكورس المترنم بكلمات ممتلئة بالأخطاء”.
الهوية الفردية مقدسة عند ترانسترومر، وهو يثور على أى شىء – سواء كانت الدولة أو الجماهير أو الكنيسة – يهددها أو يقولبها. الناقد ستافان بيرجسون أشار إلى أنه رغم وجود بعض الملامح الباطنية فى أعمال الشاعر إلا أنها لا تصل لتنويعة الذوبان التام فى الكلى. أتساءل إن كانت خبرته العملية أسهمت فى تبجيله للذات الصغرى (كمضاد للذات فى الميتافيزيقا الشرقية). فهو قضى حياته العملية كعالم نفس، غالبا ما يرشد الشباب المضطربين، وهو يعرف أفضل من كثيرين قيمة أو هشاشة الذات الوظيفية.
ترانسترومر هو شاعر هادئ، وفى 1989 أصبح أهدأ بشكل أدبى للغاية، حيث بدا أن تنبؤه غير المقصود فى قصيدة البلطيق قد تحقق، فهناك سكتة شلت جانبه الأيمن، وحرمته من القدرة على الكلام، هو ما زال يعزف على البيانو، وإن كان بيد واحدة، وما زال يجرى الحوارات ويستقبل الضيوف، وإن كانت زوجته مونيكا هى التى تفسر كلماته غير الواضحة، توازيا مع أزمته الصحية اتجه الشاعر إلى قصائد أقصر، هذه العملية التى نفترض أنها وصلت لقمتها فى عمله (اللغز العظيم)، الذى يتكون كله من قصائد على شكل الهايكو. رغم أن هذه القصائد ربما تكون النتيجة المنطقية لتطور ترانسترومر ورغم أنها امتدحت بشكل كبير فى السويد، حيث يتم توقير الشاعر، إلا أنها ليست عمله الأفضل، ولكن يظل هذا المجلد يحتوى على أعمال قيمة مثل (الثلج الذى يسقط) التى اقتبست منها سابقا، وهى كاملة كالتالى:
“الجنازات تأتى باستمرار
الكثير والكثير منها.
كإشارات المرور
ونحن نقترب من المدينة
الآلاف من الناس يحملقون
فى أرض الظلال الطويلة
الجسر يبنى نفسه ببطء
وينتصب فى الفضاء”.
نشرت بجريدة أخبار الأدب 9 أكتوبر 2011

Amir is a writer and translator from Egypt.