كتب – أمير زكي
عربات أمن مركزى حول أبراج نايل سيتى، آثار تخريب معركة مضت، شروخ على الزجاج، توجس من المارين، الأيام السابقة تقول إن معركة حدثت بين الأهالى الفقراء الذين يسكنون بالعشش وراء الأبراج وبين أمن الأبراج، ما أدى لتدخل الشرطة وانتهاء المعركة بمقتل أحد سكان العشش وإصابة آخرين من الأهالى والشرطة. الجدل الطبيعى الذى يحدث فى مثل هذا الظرف يدور بين الدفاع عن الأهالى الفقراء الذين يعيشون فى ظروف لا آدمية فى مواجهة الأبراج، التى تبدو تجسيدا لبذخ الطبقات العليا فى مصر، أو فى المقابل الدفاع عن أصحاب الأبراج مما قيل من محاولة اقتحامها أو تدميرها، ولكن بالاقتراب قليلا من المكان تجد الأمور أكثر تعقيدا، وربما يعبر ذلك عن تعقيد المشكلة بين الطبقات فى مصر بصورة عامة.
كان التوجس باديا حتى من قبل أمن الأبراج، اهتموا ألا تذكر أسماءهم الحقيقية، بل اهتموا أيضا ألا يلاحظ أهل المنطقة أنهم يتحدثون إلى صحفى. يقول أحد أفراد أمن الأبراج: “ما حدث أمر متكرر، كل فترة يقوم بعضهم ليكسر فى المكان، هذا غير البلطجة على السيارات والنقود الذين يأخذونها لمن يريد أن يركن، هم أصلا يأخذون نقودا من أصحاب الأبراج مقابل حماية المكان، بدون أن يفعلوا شيئا حقيقيا”. سألت إن كان ما يقوله عن بلطجة أهل المنطقة هو سمة موجودة فيهم حتى من قبل الثورة فقال: «كانت هناك الأخطاء العادية، بيع الحشيش مثلا، ولكن الشرطة ساعتها لم تكن تسمح بأى تعدى من قبلهم». ويلتقط طرف الحديث زميل آخر: “الثورة أخرجت منهم بلطجة لم نكن نتوقعها، من فرض الإتاوات إلى ظهور الأسلحة وتحرش برواد المكان وخلافه“.
الحكاية التى وصلت إلى نقطة الذروة بوقوع الحادث الأخير تسير ــ كما يقول أفراد أمن الأبراج ــ كالتالى، مدير أمن سابق بالمبانى اختار أثناء الفراغ الأمنى عددا من سكان المنطقة ليحموا الأبراج مقابل مرتب شهرى، هذا المرتب قد يعنى حماية الأبراج من هجوم بلطجية، أو حماية الأبراج ممن يتقاضون المرتبات أنفسهم، أو قد يعنى إتاوة فى سياق أخلاقى آخر، هذه المرتبات انقطعت ليطالب بها الحاصلون سابقا عليها لتحدث المشكلة. ويضيف: “هؤلاء الناس ليسوا غلابة كما يبدو عليهم، كل منهم لديه شقة فى مكان آخر، ولكنهم لا يخرجون من هنا لأن هذه هى الدجاجة التى تبيض لهم ذهبا“.
أفراد الأمن ساخطون على سكان المنطقة بسبب ما يقولون إنهم يتعرضون له منهم، وبسبب خوفهم من أن تؤدى هذه الأحداث لانقطاع أكل عيشهم. هم مع ذلك لا ينفون وجود أناس غير مثيرين للمشاكل بالمكان: “أنظر إلى صاحبة دكان البقالة هناك، يمكنها أن تبلطج على السيارات مثلا ومعها رجال، ولكنها لا تفعل ذلك“.
حالة التوجس لا تقل عندما تتحدث مع أهل المنطقة أنفسهم، على مقهى صغير جدا بالمكان يجلس عدد كبير من أهل الحى، يدخنون ويلعبون بالورق، يترددون فى البداية ثم يدفعون بعضهم البعض للحديث وإن كان معظمهم اهتم أيضا ألا يذكر اسمه، وهم يبدأون بالظلم الذى وقع عليهم بعد الأحداث الأخيرة، يقول أحد السكان: “الأطفال يفزعون من صوت ضرب النار، ويتم القبض على ناس ليس لهم دخل بما يحدث، غير اقتحام العشش بدون إذن”. ويضيف: “أهل المنطقة حموا الأبراج أثناء الثورة، وهم ذهبوا ليطالبوا بحقوقهم، فهل مقابل ذلك أن يتم ضربهم بالنيران”. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، ثراء وبذخ ما يحدث بالأبراج يمثل استفزازا لأهل المنطقة الذين يعيشون فى ظروف غير آدمية، كما يشير آخر: “فى الأيام العادية تجد سهرات وسماعات وصوت عالى طوال الليل”، الحل بالنسبة له هو أن يرحل الناس من هنا بترضية مناسبة من أصحاب الأبراج.
عماد يبدو وكأنه العميل المزدوج فى المكان، هو شاب من أهل المنطقة ولكنه فى الوقت نفسه يعمل كفرد أمن فى أحد مطاعم الأبراج، وهو يوضح: «هناك فقط بعض البلطجية الذين يضيعون حق أهل المنطقة، وعادة لا يصدر شىء من المسئولين فى الأبراج». وعاد الشاب نفسه ليتحدث عن المرتبات التى يأخذها بعض أهل المنطقة وهم نحو 80 شخصا حسبما يقول الموجودون، سألته إن كانوا يقومون بعمل بالفعل فنفى ذلك. وتدخل آخر من أهل المنطقة معترضا على كلام عماد، مضيفا أن أى شىء يحدث للأبراج يجرى هؤلاء لحمايته، ليؤكد أن هناك نوعا من العمل، فى حين كان رد الشاب عليه: «ولكنهم لا يقفون ثمانى ساعات وينفذون مهمات يتم طلبها منهم»، مشيرا إلى طبيعة عمله فى المطعم ولكنه يؤكد على تجاوزات رجال الشرطة بعد الأحداث الأخيرة.
الأمور هنا فى رملة بولاق تصبح مربكة حينما تريد أن تضع الأحداث الأخيرة فى حيز التنميط، فيمكنك أن تتساءل إن كان ما يأخذه أهالى المنطقة من أجر شهرى من الأبراج هو حقوق لهم أم إتاوة؟ هل تدفع الأبراج مساعدات لأهل المنطقة حقا أم أنهم يخشون من غضبهم؟ هل رغبة أصحاب الأبراج فى إخلاء العشش هو عملية تهجير أم هو رغبة من أهل المنطقة ما دام هناك تعويض مناسب؟ هل يصح أن يتحقق هذا التفاوت الطبقى البارز فى مكان واحد. يبدو الوقوع على مخرج أخلاقى مستقر أمر غير يسير.
فى انتظار ثورة أخرى
الأحداث الأخيرة جعلت الجدالات تستعر حول الصراعات الطبقية، أو خوف بعض الطبقات مما يسمى ثورة الجياع، أو تنامى مشاعر الكراهية بين الطبقات الفقيرة… كتب أحد المدونين على موقع تويتر أثناء أحداث الأبراج «الخراب للقصور، السلام للأكواخ»، ولكن كل هذا لا يجعل الأمر مستقرا، ففى حين يعترض بعض أهل منطقة على بذخ الأبراج، يقول أحد أفراد أمن الأبراج وهو من طبقة فقيرة أيضا: “هكذا خلقنا الله أغنياء وفقراء، الأغنياء يحتاجوننا لنساعدهم، ونحن نحتاجهم ليساعدونا“.
عديدة هى الأماكن فى القاهرة وفى مصر بصفة عامة التى تضم مكانا يطلق عليه راقيا لأنه يضم طبقة أعلى نسبيا وحوله من العديد من الأماكن الشعبية أو ما يطلق عليها العشوائية، رامى من المهندسين ورغم أنه يعيش فى حى ثرى نسبيا إلا أنه يعلق: “نحن أيضا فقراء، إذا قارنا أنفسنا بدول العالم، أما ما يقال عنهم فقراء فى مصر فهؤلاء خارج التصنيف أصلا، لذلك لا تستطيع أن تلوم مثل هؤلاء الأشخاص إذا قاموا بشىء كتعاطى المخدرات مثلا”. أما محمد فيقول: «لم تعد هناك طبقة متوسطة، كل هذه الطبقة تحولت مؤخرا إلى فقراء». ولكن رغم توقعهما بضرورة وجود عنف الفترة القادمة بسبب هذه الفوارق الطبقية، إلا أنهما لا يخشيان على أنفسهما من مثل هذا الأمر.
من منطلق الأفلام السينمائية المصرية التى تناولت العشوائيات فى مصر، كتبت فيروز كرواية دراستها «مبانى الفوضى» والتى أوضحت فيها أن مثل هذا الخطاب الذى تقدمه السينما ينمط المناطق العشوائية بالإيحاء بأن سكانها يمثلون تهديدا للطبقات الوسطى والعليا، وأن يصبح عنف الدولة الممثلة فى الشرطة رد فعل للعنف الذى يمارسونه سكان هذه المناطق فيما بينهم. “لم يحدث تغيير كبير فى هذه الصورة بعد الثورة”، على حد قول فيروز كراوية، وتضيف: “الأعمال الفنية والدرامية مثلا تزيح من عليهم الصفات الإنسانية، ما يقلق الطبقات التى تشعر بأمان أكبر”.
كراوية ترفض أصلا أن يقتصر وصف «عشوائى» على أهالى تلك المناطق، وتقول فى كتابها: “من قال إن عنف الأفراد تجاه بعضهم البعض ولجوءهم إلى استخدام القوة لحسم صراعاتهم هو ظاهرة تخص الفقراء أو سكان العشوائيات فقط؟ ومن قال إن عنف المجتمع ظاهرة تلقائية ولا تستند إلى جذور فى علاقة الدولة بالأفراد واعتمادها لقوانين استثنائية جعلت الاستثناء هو القاعدة؟”. أما عن الظن بأن تجلى البلطجة ينشأ من هذه الأحياء فتقول فيروز كراوية: “يعتقد البعض أن البلطجة هى تصرف ينشأ من دماغ مواطن فى أى لحظة.. ولكن فى الحقيقة البلطجة هى علاقة منفعة بين طرفين من أجل تحقيق شىء خاطئ“.
ولكن هل من المتوقع أن تؤدى هذه الأحداث إلى عنف متصاعد بين الطبقات؟ تجيب: «لم يكن لدينا فى الماضى طبقة برجوازية لها عادات متماسكة، كانوا مجرد أغنياء نسبيا ويتعاطفون مع الأفقر، ولكن مؤخرا بدأت ظهور طبقة تحاول أن تحمى نفسها، وتبنى الأسوار حول بناياتها.. الطبقات الفقيرة لن تثور ضدهم بقدر ما ستثور ضد النظام السياسى الذى صنعهم وستكون ثورة أقسى من ثورة 25 يناير».
***
الإتاوة التى يدفعها گل المصريين
أثناء أيام الثورة الأولى اختفت الشرطة من مدينة 6 أكتوبر مثلما انسحبت من كل مناطق مصر، واضطر الأهالى أن يحموا أنفسهم بأنفسهم، أو أن يلجأوا لآخرين ليحموهم، يقول عادل ــ أحد سكان المنطقة: «أثناء الثورة المجرمون هربوا من السجون وفى طريقهم كانوا يمرون على 6 أكتوبر، كنا نعرف عرب (بدو) معهم سلاح اتفقنا على أن نعطيهم نقود مقابل أن يحمونا». ولا يعتبر عادل أن البدو القائمين على حمايتهم كانوا بلطجية: “كانوا يحموننا، كنا نراهم وهم يقفون حول الأسوار تحسبا لأى شىء”.
ويضيف عادل أنهم كانوا يتقاضون من أهل المنطقة نحو ثلاثة آلاف جنيه يوميا، كانوا يتعاملون معهم باليوم وأحيانا كانوا يتوقفون عن الدفع لهم عندما يجدون الأمور أكثر أمنا، وقد توقفوا الآن عن الاستعانة بهم لأن البلد مستقر نسبيا، وانقطاع الدفع لم يسبب مشكلة لأهل المنطقة. ويستطرد عادل: “فعلنا هذا فقط لعدم وجود أمن فكل واحد كان عليه أن يحمى نفسه بطريقته، لكن بالطبع نفضل أن تسيطر الشرطة على الأمور”.
التعامل بين أفراد المجتمع فى مصر بالإتاوة على تنوع أشكالها هو أمر شائع فى مصر، وإن كانت الإتاوة فى اللغة تعنى بشكل ما «الخراج» أو «الضرائب»، فهى تختلف شعبيا ــ عن الأخيرة لأنها تتم بعيدا عن حكم القانون أو بمعزل عن الدولة. واختفاء شكل الدولة «الحكومة» أو الشرطة لفترات طويلة بعد الثورة أو ضعف تمثيلها ساعد على انتشارها. الأمر لا يقتصر على طبقة متوسطة أو ثرية نسبيا تدفع لطبقة أفقر لتحميها، المسألة شائعة أيضا بين الطبقات الفقيرة فيما بينهم، أو ربما تمارسها طبقات أعلى على طبقات أفقر بطريقة ما.
فى شارع كوبرى الخشب ببولاق الدكرور يعرض الباعة سلعهم على «فَرَشاتهم» على الجانبين، السلع تتنوع ما بين ملابس وأطعمة وسجائر، ينعى سيد الذى يبيع الولاعات والذى يجلس فى المكان من 2003 غياب الأمن عن المكان، ويقول: “البلطجة زادت، لأننى قديم هنا لا أدفع إتاوة ولكن الباقين كلهم يدفعون وأقل مبلغ يتم دفعه هو ألف جنيه فى الشهر”. ويضيف: “هم لا يحموننا من شىء، الناس هنا كلهم طيبون، هم يحموننا فقط من أنفسهم”. ويؤكد سيد أن الإتاوة موجودة من قبل الثورة ولكنها زادت بعدها: “البلطجية زادوا وافتراءهم أيضا زاد”.
محمد الذى يبيع الملابس مع زملائه بدأ بالقول: “لا توجد إتاوات”. قبل أن يسأله حسن زميله: “هل نتكلم (دوغرى) أم لا؟” يعود محمد ويؤكد أن هناك إتاوات يأخذها البلطجية فى الشارع وإن لم تنطبق عليه، وتسعيرة الإتاوة يوميا تتراوح ما بين 20 وثلاثين جنيها، وإذا أضفنا ذلك إلى الثلاثين جنيها اليومية التى يدفعها بائع مثل محمد لصاحب البيت الذى يؤجر منه الفرشة سنعرف أن الربح الذى يحصل عليه محدود جدا.
الإتاوة البعيدة عن مراقبة الشرطة أمر قديم فى مصر، وبالتالى امتدت الظاهرة ليرصدها عالم الأدب، ففى عالم الفتوات الذى كتب عنه نجيب محفوظ فى رواية «الحرافيش» كانت الإتاوة هى التعبير الأمثل على سيطرة الفتوة على الحى وهى الوسيلة الأهم لثراء الفتوة وإرضاء معاونيه. وكانت طيبة الفتوة تتجلى فى عدم فرضه للإتاوة أو فرضها فقط على الأعيان لتقديمها للفقراء لا المعاونين، كما كان يفعل عاشور الناجى الكبير مثال الفتوة الطيب فى الرواية. الرواية تذكر ــ وهذا صدى لما كان يحدث فى القاهرة تاريخيا ــ أن الفتونة وتجلياتها ومنها الإتاوة كانت تسير جنبا إلى جنب مع وجود الشرطة والحكومة، وعلاقة الفتوات بالحكومة كانت علاقة شد وجذب قائمة على الصراع المتبادل أو المصلحة المتبادلة.
مظاهر الإتاوة أصبحت متجددة وهى غير مقتصرة على طبقة معينة سواء لدفعها أو تطبيقها، فالمقابل الذى يؤخذ من صاحب السيارة حتى يركن سيارته تعتبر إتاوة، وفى صفحة على الفيس بوك يعترض أعضاؤها على الضريبة التى يتم دفعها شهريا لشركات المحمول من قبل عملاء الكارت، لأنها فى رأيهم ضريبة غير قانونية وتم وصفها أيضا بأنها “إتاوة”.