ألوان الحياة

أهل الواجب والأفراح

أهل الواجب والأفراح

منتخبات المناطق الشعبية

 

كتب – أمير زكي


يجتمع المعلم ربيع الروبى وأخوه المعلم على، ومعهم المعلم محمد جابر وغيرهم من مجموعة “منتخب المقاولين” الذى أسسوه فى مقر سكنهم وعملهم بحدائق حلوان، ليتجهوا إلى فرح المعلم أبو يارا الذى ينظمه منتخب “الجيش والشعب” بالمعصرة. يجمع المعلم ربيع نقود النقوط التى يجمعها من أفراد منتخبه الثمانية، ولا ينسى أن يسجل المبلغ الذى دفعه كل فرد منهم فى دفتر. ولا ينسى أيضا أن يصطحب معه دعوات الفرح الذى سيقيمه منتخب المقاولين باسم المعلم عبدالعزيز موافى، والذى سيقام بعد يومين فى حدائق حلوان، ليوزعها على المنتخبات والأفراد الحاضرين فرح أبو يارا.
تبادل النقوط والمجاملات فى الأفراح والمناسبات لم يعد مجرد طقس بسيط، يتم بشكل تلقائى، بل أصبح نشاطا له قواعده فى المناطق الشعبية، بحيث يمكنك حتى أن تجد أناسا يعتمدون ربما فى أكل عيشهم على هذا الطقس. ومن المعروف أن المجاملات التى تتم فى المناسبات العامة تتم من قبل فرد نحو الآخر، ولكن لزيادة النظام والإحساس بالترابط والتعاون أخذ طقس النقوط والمجاملات يأخذ شكل “المنتخبات”، حيث يجتمع عدة أفراد من المنطقة نفسها أو العائلة نفسها أو ذوى المهن المشتركة أو حتى من ذوى المزاج المشترك ليكونوا منتخبا، هذا المنتخب يتحرك ككيان واحد فى المناسبات ليوضع النقوط باسمه، ويرد النقوط باسمه، ويتم تنظيم مناسبات أفراد المنتخب أيضا باسمه.
معظم أفراد منتخب المقاولين يعملون فى مجال المقاولات كما يظهر من الاسم، ولكن كبير المنتخب المعلم ربيع يذكر أن المنتخب يضم أصحاب مهن أخرى كمبيض محارة ومدير مطعم وكهربائى، يقول المعلم ربيع: “المسألة تعتمد على الصداقات، كل المنتخب جيران وأصحاب”، لم يستطع المعلم ربيع تحديد الوقت الذى بدأت فيه فكرة المنتخبات فى الظهور، ويقول: “الأمر قديم جدا، ولكن منتخب المقاولين بدأ عام 2000، وأنا أول من نظمت فرح فى المنتخب لأخى”.
ورغم أنه يطلق عليه اسم فرح إلا أن فرح المعلم أبو يارا بالمعصرة لم يكن فيه زفاف، فلا يوجد عريس وعروسة، لا توجد حتى نساء فى الفرح باستثناء الراقصات، كل الحاضرين رجال، يجاملون بعضهم البعض، يقول المعلم ربيع الروبى: “هذا يسمى فرح جمعية”.
فى فيلم “الفرح” الذى ألفه أحمد عبدالله وأخرجه سامح عبدالعزيز عام 2009، يسعى بطل الفيلم زينهم لجمع “النقوط” الذى وزعه على كل من جاملهم بدعوى أنه سيزوج أخته المتخيلة، ولكن وجود مناسبة حقيقية لم يعد ضروريا لإقامة فرح الآن للم النقوط، فما عليك سوى أن تنظم ليلة تدعو فيها كل المنتخبات والأفراد الممكنين ليجاملوك أو يردوا ما عليهم، وهذا ما يسمى فرح الجمعية.
يقول محمد جابر الذى يدير مطعم ربيع الروبى بحدائق حلوان والمنتمى أيضا إلى منتخب المقاولين: “كل واحد يكون لديه دفتر مخصص للنقوط، يقيد فيه كل مبلغ دفعه فى فرح أو مناسبة، وعندما يجد صاحب الدفتر أن لديه مبلغا كبيرا دفعه فى الأفراح، دفتره ثقل، يقيم بالتالى ليلته الخاصة، سواء كانت لديه مناسبة أو لا ليسترد ما له من نقود”. يضيف جابر الذى كان عائدا لتوه من فرح بالحوامدية نقط فيه نيابة عن أفراد منتخب المقاولين: “الجنيه يقابل بجنيه”، وهذا يعنى عندهم أن من يدفع 50 جنيها مثلا فى أحد الأفراح، يردها صاحب الفرح بعد ذلك بـ100، هذه هى الأصول، ولكنها ليست قاعدة صارمة، فيمكنك أن تدفع أكثر، ولكن سيكون من المعيب أن تدفع أقل مما تم تنقيطك به. مثل هذا الفرح قد يساعد صاحبه على جمع مبلغ كبير من المال يساعده فى عمله وأكل عيشه. يستشهد جابر بمغن شعبى من حلوان، كان له نقوط عند جميع المعارف الذين كان يغنى فى أفراحهم، بحيث كان يترك جزءا من أجره لديهم كنقوط، توفى المغنى، فأقام أخوه عليه ليلة للم النقوط التى اشترى بها ميكروباصات (تويوتا) يصرف من ريعها على بناته.
بوحة عضو منتخب الشطار
الانضمام للمنتخب يزيد من مساحة علاقات الشخص، فأنت هنا عندما تنظم ليلتك لن يجاملك فقط معارفك، بل سيجاملك أيضا معارف كل فرد من أفراد المنتخب. هذا يؤكده بوحة الجزار عضو منتخب الشطار الذى يستقر أيضا فى حدائق حلوان قائلا: “الفرح الذى ينظمه منتخب يكون أنجح بكثير من الفرح الذى ينظمه الشخص وحده”، محيلا إلى كمية العلاقات والدعاية التى يستطيع أن يقدمها المنتخب للفرد. ويضيف: “عندما أذهب لفرح ينظمه منتخب أتقل من نقوطى لصاحب الفرح، لأننى بهذه الطريقة أجامل المنتخب كله، وفى الفرح الذى سأنظمه سيرد المنتخب كله المجاملة لى”.
حسام أبو النور الشاب الذى يعمل محاسبا، والذى يضم منتخبه “الجزيرة” أعمارا متفاوتة وأصحاب مهن مختلفة أيضا، يقول إن المنتخبات موجودة من سنوات عديدة ولكنها انتشرت بشكل كبير فى آخر سنتين… سألته عن سبب ذلك فقال ضاحكا: “الفراغ”، ولكنه عاد وقال: “قد تعتقد أن النقود هى السبب فى انتشار المنتخبات والأفراح ولكن هذا ليس حقيقيا، السبب الأساسى هو الإثارة”. قد تجد لمنطق حسام وجاهة، عندما تنظر إلى الأجواء التى تتم فيها الأفراح، سواء من لوازم المزاج أو من تعارف الأصحاب، أو من طبيعة الموسيقى المستخدمة ووجود راقصات إن أمكن. فى الفرح الذى نظمه منتخب المقاولين، ورغم أنه ليس من الأصول أن تنضم إليه النساء، إلا أن نساء المنطقة كن واقفات خلف الفِراشة يتابعن ما يحدث فى الفرح. فى الشوارع والمجتمعات الضيقة يبدو أن الأفراح هى إحدى وسائل المرح الأساسية لدى الناس هناك.
المعلم شداد كبير الجزيرة                                             
كبير منتخب الجزيرة هو المعلم شداد وهو معلم خضار، حسام يقول إن المعلم شداد هو أكبر أعضاء المنتخب سنا، لذلك فهو كبير المنتخب، ولكنه، أى حسام، هو الذى يقوم بمتابعة كل أنشطة المنتخب. ولا يحبذ حسام فكرة الليالى أو أفراح الجمعية التى تتم للم النقوط. يقول: “عندنا فى منتخب الجزيرة لا نرى هذا ملائما، وإنما لا نقيم فرحا إلا عندما يكون هناك فرح بالفعل”. ويستشهد بالفرح (الزفاف) الذى أقامه لأخيه.
ويرى حسام أنه كلما زاد عدد أعضاء المنتخب كان تماسكه أقل، فإذا تخلف أحدهم عن دفع نقوطه، سيختل وضع المنتخب كله الذى سيضطر لتغطية الفرد الذى لم يدفع. قد تتم عملية لم نقود النقوط من المنتخب بشكل ودى بين أفراد المنتخب الذى يتكون أعضاؤه من مجموعة أصدقاء، ولكن بعض المنتخبات لا تميل لهذه الثقة فيعتمدون على “وصولات الأمانة”، يقول حسام: “إذا أراد عضو جديد أن ينضم إلينا سيوقع على وصل أمانة على بياض”، حتى إذا تخلف الفرد عن دفع ما عليه، يستطيع المنتخب أن يسترده منه.
قبل بدء فرح المعلم عبدالعزيز موافى والذى ينظمه منتخب المقاولين، يجلس المعلمون ويتناقشون حول طبيعة تنظيم الأفراح، وما إذا كان النقوط الموجه للفرقة “البوش” يكون من حق الفرقة أم من حق أصحاب الفرح. وبينما يقول حسام أبو النور إن خط حلوان كله ممتلئ بالمنتخبات، يتدخل المعلم محمد من العمرانية ويقول: “عندنا فى العمرانية كل واحد منتخب وحده”. وإن كانت إحدى مميزات المنتخبات عند أعضائها هى إمكانية أن يغطى المنتخب المبلغ الذى لا يستطيع دفعه أحد أعضائه ساعتها. ويرى المعلم محمد أن تلك هى إحدى مساوئ المنتخبات، فقد يحمل أحد الأعضاء منتخبه العديد من النقود وبعدها تجده اختفى عن المنطقة.
الديابة مسجلون فى الشهر العقارى
المعلم عزيز الشرقاوى كبير منتخب الديابة يقدم تصورا أكثر تنظيما للمنتخبات، يقول: “منتخب الديابة اسمه مسجل فى الشهر العقارى. نحن أقرب إلى جمعية ولنا فروع فى سيناء وفى الشرقية وفى المعصرة وفى حلوان”، منتخب الديابة يتحرك بشكل أكثر جماعية من المنتخبات البديلة، ربما سبب ذلك كون أفراده من عائلة واحدة، يقول المعلم عزيز الشرقاوى: “نحن نضع نقوطنا كمنتخب، ونتلقى النقوط أيضا كمنتخب لا كأفراد، والذى نربحه من النقوط نؤسس به مشروع يعود ريعه على المنتخب كله”. يستشهد المعلم عزيز بكونهم اشتروا عربية نقل وأرضا لصالح المنتخب.
ولكن لا تخلو دائرة المنتخبات والنقوط من ضيق يتسبب لمن ينغمس فيه، يقول المعلم محمد جابر: “هى خية أنت تقع فيها”. محيلا إلى كم الوقت والمجهود الذى يبذله فى اللف على الأفراح، ويضيف: “فى شهر يوليو فقط هناك 199 فرح علينا أن نجامل فيهم منها 12 فرحا فى يوم واحد”.
حسام أبو النور يؤكد أن من يدخل “الخية” على حد تعبير جابر عليه أن يكون “قد الأفراح”، ويقول: “إن لم تأخذ حرصك وأنت تتحرك فى الأفراح، ربما ستجد نفسك قد دفعت مبالغ كبيرة ولا تستطيع استردادها”.
ولكن رغم أن الأفراح والمجاملات لا تنتهى، إلا أن نظام أفراح الجمعية مع ذلك يتيح مخرجا من هذه الدائرة، وهو مخرج أيضا له أصوله. يشرح محمد جابر فكرة “المخرج” كالآتى: عندما يمل أحدهم من لعبة الأفراح، ينظم فرحا يدعو فيه كل المدينين له، فإذا أعطوه أكثر مما لديه عندهم، يرد فى نهاية الفرح نقودهم الزائدة بحيث لا يكون له أو عليه نقود، ولا يعود مرة أخرى لمجاملتهم، وهذه تسمى تصفية.
يبدو حضور هذه النوعية من الأفراح بعيدين تماما عن الشحن السياسى الحادث فى مصر فى الفترة الأخيرة، ربما يشكو بعضهم من ضيق فرص العمل، ولكن يكاد يكون من النادر أن يعلق أحدهم على الشأن العام وما يحدث فى البلد حاليا.
*** 
إبداع اقتصادى
“كلما زادت الضائقات الاقتصادية تنوعت أساليب الناس فى التحايل على المعايش”، هكذا تشرح شهيدة الباز، مديرة مركز البحوث العربية والأفريقية والخبيرة فى الاقتصاد السياسى طبيعة نمط أفراح الجمعية.
وتضيف: “الناس يريدون الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية، وبالتالى فأسلوب المجاملة العادى المتعلق بالنقوط تحول إلى دين يتم رده”. وتعيد الباز ظهور مثل هذه الأنماط إلى تقصير الحكومة فى تبنى سياسات اقتصادية جديدة، موضحة: “هذا ما جعل الناس يتصرفون وكأنه لا توجد حكومة”.
وترجع فكرة رد المجاملة بضعف المبلغ الذى تم تلقيه إلى دراية الناس بكون القوة الشرائية للنقود تقل، قائلة: “يظل هناك تفاهم بأن المجاملة سيتم ردها، وثقة أن أحدا لن يأكل حق الآخر”.
ترى شهيدة الباز أن أفراح الجمعية هى نوع من الإبداع المصرى، خصوصا أنها تتم بالتفاهم ولا يوجد فيها “نصب”، فلا يوجد شىء يعيبها ومن الخطأ أن نحكم عليها قيميا.
أفراح الجمعية تضم فكرتين متشاركتين وهما نقوط المجاملات والجمعية الاقتصادية الشهيرة المنتشرة فى مصر، وفيها تضع المجموعة المتشاركة مبلغا ماليا متساويا بشكل دورى ثم يقبض كل واحد من أفراد الجمعية المبلغ المجموع بشكل متوال، ترى كذلك شهيدة الباز أن أسلوب الجمعية المصرى مفيد اقتصاديا، هذا غير كونه أسلوبا متعاونا وحميما، تخلى الدولة عن دورها الاقتصادى وخضوعها لشروط البنك الدولى وصندوق النقد أديا لفساد الاقتصاد، وهو ما أظهر أنماطا شعبية للتضامن الاقتصادى والاجتماعى على حد قولها، ولكن هل لو عادت الدولة لتقدم دعمها للمجتمع ستتلاشى هذه الأنماط؟ تعلق الباز: “مبدئيا يجب على الدولة أن تقوم بدورها فى تنظيم الاقتصاد ودعم المجتمع والمساعدة على التنمية خصوصا فى دول العالم الثالث حيث المؤسسات غير المكتملة، وفى حالة وجود عدالة فى توزيع الدخول فمن الصعب أن يلجأ أحد لهذه الأنماط من التضامن، إلا لو كان الأمر مثيرا للإعجاب لديهم”.
 ***
النقوط حول العالم
تقديم المال فى المناسبات العامة، خصوصا السعيدة منها والتى تسمى عندنا «النقوط» هو طقس قديم ومنتشر فى العديد من البلاد العالم. الأفراح تحديدا هى الحدث الأساسى الذى يتلقى فيه منظموه وهما العروسان أو عائلتاهما المال، وغالبا يكون المقصود منه مساعدتهما ليبدآ حياتهما الزوجية، أو تغطية مصاريف الزفاف أو كمقابل لما تلقاه المدعو من طعام وشراب أثناء الزفاف. يتخذ تقديم المال فى حفلات الزفاف أشكالا عديدة، ففى الصين تقدم العروس أكواب الشاى للمدعوين فى حفل الزفاف فيقدم لها المدعوون أظرفا ممتلئة بالمال فى المقابل. وفى بولندا يحضر المدعوون من الرجال دبابيس بجانب المال الذى سيقدمونه للعروس، فيشبكون المال فى فستانها ويرقصون معها فى المقابل، أما فى تايلاند توضع نقود النقوط فى الظرف الذى يحمل دعوة الفرح أو المناسبة.
عدد من شعوب دول شرق آسيا كالصين وكوريا، يميل لإعطاء الأموال فى المناسبات داخل ظرف أحمر، حيث يعبر اللون عن الحظ السعيد ويطرد الأرواح الشريرة. المناسبات هناك تتنوع بين حفلات الزفاف أو تقديم المال للأطفال فى الأعياد. أما فى دول مثل ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا فيتحول لون الظرف إلى أخضر ويقدم تحديدا فى عيد الفطر لمن يزور بيت المعطى كجزء من الزكاة. وفى اليهودية فالرقم 18 يكون مقابله فى الكلمات هو كلمة (الحياة)، هذا يجعل اليهود يتبادلون هداياهم المالية بقيمة تحمل رقم 18 ومضاعفاته رغبة فى تمنى الحظ السعيد للطرف الآخر.

Amir is a writer and translator from Egypt.